زهير الحارثي
كاتب وبرلماني سعودي. كان عضواً في مجلس الشورى السعودي، وكان رئيساً للجنة الشؤون الخارجية، وقبلها كان عضواً في مجلس «هيئة حقوق الإنسان السعودية» والناطق الرسمي باسمها. حاصل على درجة الدكتوراه في فلسفة القانون من جامعة كِنت - كانتربري في بريطانيا. وهو حالياً عضو في مجلس أمناء «مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني». عمل في النيابة العامة السعودية إلى أن أصبح رئيساً لدائرة تحقيق وادعاء عام. مارس الكتابة الصحافية منذ نحو 3 عقود.
TT

الوجه الآخر ليس بالضرورة مُضيئاً

حماية حقوق الإنسان غاية سامية ترنو إليها البشرية؛ ما يعني أنَّ لها وجهاً جميلاً وناصعاً طالما ارتهن للمصداقية وحقائق الأمور، ولكن بالمقابل لها أيضاً وجه قبيح ومظلم إن أردنا الحقيقة، وذلك عندما يتم تسييسها واستغلالها لجلب مصالح ومكاسب. كما أنه لا يُمكنك أن تُعطي دروساً ومحاضرات وانتقادات للغير حول حقوق الإنسان في الوقت الذي تعاني فيه من انتهاكات حقوقية صارخة، ولذا لا ترمي بيوت الناس بالحجارة وبيتك من زجاج!
العدالة، ومنذ المجتمعات البدائية كانت ولم تزل تشكل هاجساً مهيمناً على الوعي الاجتماعي. الفلسفة الغربية لها ومضات فكرية لافتة في هذه الجوانب الإنسانية نطرحها لمزيد من الإثراء. ففعل الإنسان عادة ما يصدر من العقل الذي كان قد شرّحه الفيلسوف كانط في مذهبه المثالي، والذي ربط فيه معنى القانون الخلقي بمفهوم الإرادة الصالحة التي يفرضها الواجب، والتي بها يتحقق الخير الاجتماعي. أما المفكر الإنجليزي كليفورد، فيرى أن لكل إنسان ذاتين، فردية واجتماعية، وأن لحظة نشوء الصراع ما بين هاتين الذاتين، تكون ولادة الضمير، فيتحقق الخير الاجتماعي (الأخلاقي). إذن هي الأخلاق التي يكمن فيها السر والتي رأى فيها جان جاك روسو (صاحب العقد الاجتماعي) عمليتي التلاقح والإفراز، أي تلاقح العقل (السياسة) والضمير (الأخلاق) لتأتي مرحلة الإفراز، أي إنتاج القانون (العقد). ما يعني أن السلوك الأخلاقي هو الذي يحفظ نمو الحياة وفق تعبيرات المفكر هربرت سبنسر. هذا كلام فلسفي وجميل، ولكن المهم كيف يتعاطى معه الغرب؟
حقوق الإنسان تشكل في وقتنا الراهن مصدراً جديداً للشرعية، بل وتحدياً للأفكار التقليدية للمدرسة الواقعية حول العلاقات الدولية، وجعل من الرقابة الدولية أمراً حتمياً، لتصبح حماية حقوق الإنسان قانوناً وواقعاً بعدما كانت شعاراً مثالياً.
من تجربتي الحقوقية، لمست أن هناك منظمات حقوقية دولية مرموقة ومستقلة ولها مكانة ومصداقية وتاريخ وتلتزم المبادئ التي لا تحيد عنها حين إصدار تقاريرها الدورية، ومع ذلك تخرج عن السياق المهني أحياناً بسبب توجهات من قام بإعداد التقرير وادعائه بصحة كل ما فيه، وهنا تكمن الإشكالية بحق، حيث ينعكس ذلك على مصداقية المؤسسة نفسها ومكانتها. المواقف الشخصية لهذا الشخص أو ذاك يكون لها تأثير واضح على سياق وإعداد التقرير، ويمكن أن تتضخم المعلومات وتُهوّل وفقاً لتوجهاته، ورغم أن هناك آليات محددة في تمرير مثل هذه التقارير في المنظمات المرموقة، فإنها للأسف تضع المسؤولية على من قام بكتابته، والحقيقة أنها رُزئت ببعض العناصر، وبعضهم عرب للأسف ممن لهم توجهات ومواقف معينة من بعض الدول، حيث لا ينفكون استغلال التقارير الحقوقية لتشويه سمعة هذا البلد أو ذاك.
أما التقارير الحقوقية السنوية الصادرة عن وزارات الخارجية للدول الكبرى، فإن أغلبها مسيّسة نظراً لتغلغل السياسة وتطويع الملف الحقوقي للأجندة السياسية للدولة التي تُصدر التقرير، حيث تستغله لمآرب معينة، وبالتالي ومن خلال بروباغندا التقرير تفرض ضغوطاً وإملاءات على هذه الدولة أو تلك لأجل تحقيق ما تريد.
بعض الدول لا سيما عندما يصل فيها اليسار للسلطة، فإن حكوماتها تتلقف مثل هذه التقارير وتروّج صحتها وتجيرها لأجندتها السياسية عبر إصدار بيانات تندد فيها بالانتهاكات الحقوقية المزعومة ضد من تريد إخضاعه وابتزازه. من يستمع لتلك البيانات يعتقد أن ملفها الحقوقي ناصع البياض مع أن الواقع يقول خلاف ذلك.
ثمة مفارقة بين مفاهيم حقوق الإنسان العالمية، وبين أساليب بعض دول الغرب التي تتمظهر بشكل سافر في الانتقائية وتطبيق المعايير المزدوجة، ينكشف هذا الخلل عندما تمارس هذه الحقوق داخل بلدانها، وتتجاهلها خارجها. الغرب يتكلم لغة مختلفة حين يأتي الأمر على حقوق بعض الشعوب أو الأقليات في بعض الدول الأوروبية، فضلاً عن ممارسات إرهاب الدولة كإيران مع مواطنيها السُنة.
نقطة أخرى تتعلق باحترام ثقافات الشعوب، فما يعتقده الغرب أنه انتهاك حقوقي، قد يراه المجتمع المسلم عكس ذلك، وأنه من صميم ثقافته ومعتقداته كعقوبة الإعدام مثلاً. حرية الرأي مثال آخر؛ فهي من صميم الحقوق وتشدد عليها المنظمات الحقوقية، ولكن من المناسب أن يكون لها سقف؛ حتى لا تصل للإضرار بالآخرين، فهي نسبية ويفترض تقييدها في مواضيع معينة كمسألة ازدراء الأديان والتطاول على كل ما هو ديني لكونه أمراً خطيراً هدفه إثارة الكراهية والتفرقة.
إشكالية الغرب تكمن في صراعه ما بين المبادئ والمصالح، فهو وإن كان يطرح أفكاراً تنويرية، إلا أن المعضلة تبرز حينما لا يستطيع التمييز في نوعية الطرح مع المسلمين، بدليل أنه لا يأخذ في الاعتبار الأبعاد الدينية والثقافية والفكرية للمجتمعات مع أن القانون الدولي يعطي الحق السيادي لكل دولة، على سبيل المثال في أن تصوغ نظامها الجنائي والقانوني وفقاً لتركيبتها الثقافية والاجتماعية.
التمسك بكونية حقوق الإنسان واحترام ثقافات الشعوب معادلة ناجعة؛ كونها تحجب عنا رؤية الوجه القبيح لحقوق الإنسان، وبالتالي تلاشي تناقضات الغرب.