حسين شبكشي
رجل أعمال سعودي، ومستشار اقتصادي لعدد من الشركات الخليجية الكبرى، وعضو مجلس إدارة ورئيس مجلس إدارة في عدد من الشركات السعودية والأجنبية. نشر العديد من المقالات في مجالات مختصة، وفي صحف ومجلات عامة في العالم العربي. اختير عام 1995 «أحد قادة الغد» من قبل «المنتدى الاقتصادي العالمي» في دافوس. أول رجل أعمال سعودي وخليجي ينضم إلى «منتدى أمير ويلز لقادة الأعمال».
TT

أحمد زكي يماني في ذمة الله!

غاب وزير البترول والثروة المعدنية السعودي الأسبق أحمد زكي يماني عن عمر تجاوز التسعين عاماً، بعد حياة مثيرة حافلة بالعديد من المحطات اللافتة والمهمة. ولد الراحل في مكة المكرمة ونشأ وترعرع في أسرة علمية شرعية معروفة فيها. ثم درس القانون في القاهرة، وسلك في طريق الحقوق والقانون والمحاماة، وكان يكتب بعض المقالات في الصحف المحلية في هذا المجال مما لفت الأنظار إليه في سن مبكرة جداً.
وفي عام 1958 عمل الراحل مستشاراً قانونياً لمجلس الوزراء، ثم تم اختياره في عام 1962 ليكون وزيراً للبترول والثروة المعدنية، وهو المنصب الذي بقي فيه لما يقارب الربع قرن حتى سنة 1986.
منذ الإعلان عن خبر وفاته الذي حظي بتغطية إعلامية عالمية هائلة، وذلك رغم خروج الرجل من المشهد الرسمي منذ عقود طويلة من الزمن، والناس تحاول أن تستذكر أهم محطات الراحل وأبرز إنجازاته، وهي مهمة لن يفي مقال محدود الكلمات حقها. ولكن يحسب للراحل إنجازات كان لها الأثر الكبير والمهم؛ أولها تمكن بالأساليب القانونية المحضة بعيداً تماماً عن القومجية، وحركات التأميم العشوائية والمتشنجة، التي كانت تسود المنطقة وأنهكت كافة الدول التي طبقتها، وذلك بنجاحه المبهر مستغلاً خلفيته القانونية البحتة في استحواذ السعودية على ملكية شركة «أرامكو» من دون خسارة رباعي الشركات الأميركية الذين استمروا كعنصر فعال في التعاون الفني والتجاري بعد ذلك، لتستمر العلاقة بين كافة الأطراف في نمو واستقرار، وهو الإنجاز الذي وصفه الأميركي دانييل يرغن أحد أهم خبراء النفط في العالم اليوم بـ«التاريخي والعبقري والاستثنائي».
الإنجاز الثاني كان تحقيق الطفرة الإنتاجية الأعظم التي مكنت السعودية من أن تستفيد بشكل جديد ومختلف من تأثيرها الاقتصادي وبالتالي السياسي على الساحة الدولية، ومن توظيف العوائد المالية في خطط التنمية المحلية، وطور من دور المنتج المرن الذي جعل السعودية معياراً لأهمية السلعة الأولى والأهم في الاقتصاد العالمي، وهذا العنصر تحديداً كان خلف الطفرة الاقتصادية الكبرى في فترة السبعينات الميلادية المعروفة، والتي تركت أثراً اقتصادياً تاريخياً على الاقتصاد المحلي السعودي.
الإنجاز الثالث، هو الذي تحقق بقوة السعودية الجديدة على منظمة «أوبك» لتصبح حينها اللاعب الأكثر تأثيراً على أهم منظمة اقتصادية في العالم، ونجح الرجل في انتزاع هذا الدور من الهيمنة الإيرانية الكاملة وقتها، وقد أحسن الراحل استغلال المؤتمرات الصحافية للمنظمة في مقرها بالعاصمة النمساوية فيينا لتكون إحدى القوى الناعمة ليرسل من خلالها رسائل مختلفة للسوق المستجيبة والمتفاعلة، وكوّن خلالها أسلوباً أنيقاً هادئاً رصيناً عرف به في التخاطب مع الإعلام والوصول إلى العقلية الغربية بنجاح وتأثير وفاعلية. وهناك الإنجاز الرابع المتمثل في عمله على إنشاء جامعة البترول والمعادن بالتعاون مع شركة أرامكو.
على الصعيد الشخصي كانت هناك محطات لا تقل أهمية عما سبق سرده، ففي سنة 1975 حدثت حادثتان مهمتان في حياة الراحل لا يمكن الإغفال عن تأثيرهما عليه لاحقاً؛ أولاهما في شهر مارس (آذار) عندما كان حاضراً وشاهداً على جريمة اغتيال الملك فيصل، تلك الحادثة التي وقعت أمامه وتركت أثرها الكبير عليه لعلاقته القوية والمحبة العميقة التي كان يحملها للملك الراحل. والثانية في شهر ديسمبر (كانون الأول) عندما تعرض وزراء النفط أعضاء منظمة أوبك في فيينا لعملية اختطاف منظمة بقيادة الإرهابي الفنزويلي المعروف كارلوس، وظل يردد دوماً ولسنوات طويلة بعد الحادثة أن سبب نجاته هو دعوات والدته له التي كان يبرها بشكل أسطوري. تفرّغ الراحل بعد رحيله للأبحاث والنشر، فأنشأ في العاصمة البريطانية لندن مركزين؛ الأول لدراسات الطاقة، والثاني لدراسات التراث، وأصدر من خلالهما مجموعة مهمة من الكتب والدراسات المتخصصة التي لاقت القبول والاحترام العريضين، كما أنه أبقى مكتبه المتخصص في المحاماة يعمل في السعودية.
أحمد زكي يماني رحل بعد أن شارك في صنع تاريخ مميز وحقبة ذهبية من تاريخ السعودية. رأى الملك الراحل الفيصل فيه بفراسته وحكمته وحنكته مزايا مهمة رغم صغر سنه، مزايا تشمل الهدوء والذكاء، ومهارات التفاوض، وقد أثبتت الأيام صدق حدس الفيصل ونظرته الحكيمة في معادن الرجال.
رحم الله أحمد زكي يماني رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، وألهم أهله ومحبيه الصبر والسلوان و«إنا لله وإنا إليه راجعون».