سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

مين زيك عندي يا خضرة

صباح 12 أكتوبر (تشرين الأول)، 1492، هتف بحار في أسطول كريستوفر كولومبس، المؤلف من ثلاثة مراكب، بأعلى صوته: اليابسة! اليابسة! ومنذ تلك اللحظة سوف تتغير في عالمنا أشياء كثيرة وتجري أحداث كثيرة، يعرفها معظمنا، ولكن لا بأس في ذكر بعضها لمجرد تدريب الذاكرة.
طبعاً الحدث الأهم كان أن تلك اليابسة أصبحت «العالم الجديد»، أو أميركا، كما سماها كولومبوس. وتبعت أحداث ومتغيرات لا يحدها العقل. فقد أباد الرجل الأبيض، السكان الأصليين، أو «الهنود الحمر»، وبدأ في إقامة قارة أوروبية على بُعد محيط كامل من أوروبا، أو العالم القديم، وتحولت تلك «اليابسة» إلى أغنى بلدان الأرض، وصارت «مروج الذهب» الحقيقية، كما في العنوان الشاعري للمسعودي. ولم يعد الأطلسي «بحر الظلمات» كما سماه العرب، بل قام من حوله عالم مليء بالحياة والحركة والتجارة. وأبحر فيه المغامرون والملاحون ليبنوا على سواحله دولاً جديدة.
إذن، أرباح وجوائز؟ لا، ليس تماماً. ولقد كان في إمكان المتنبي أن يضاعف حكمته بأن يستكملها «وفوائد قوم عند قوم مصائب»، لكن الواو سوف تكسر الوزن، ومن ذا الذي يجرؤ على أن يلمس قلاع المتنبي، ولو بحرف عاطف.
في إحدى مسرحيات دريد لحام يقول: «إذا أردت أن تعرف ماذا يجري في البرازيل، عليك أن تعرف ماذا يجري في إيطاليا». لكي نعرف ماذا جرى في أميركا العام 1492، يجب أن نعرف ماذا جرى في البندقية، على الساحل الإيطالي. كانت البندقية إحدى أهم القوى البحرية والتجارية في العالم. أهلها تجار ومهرة وبارعو بحار. وقد بدأت هذه المكانة في السقوط لحظة اتجهت أوروبا صوب أميركا، عابرة الأطلسي، تاركة خلفها العالم القديم في المتوسط.
ولم تعد البندقية سوى بقعة جمالية ساحرة، يغني لها محمد عبد الوهاب «الغندول» «آه لو كنت معي نختال عبره / في شراع تسبح الأنجم إثره». أو يسكن فيها اللورد بايرون، قبل أن يقرر المشاركة في حرب اليونان ضد الأتراك حيث توفي بمرض سببه جرثومة. وفقدت البندقية ألقابها القديمة مثل «المنتصرة» لتعرف بألقاب شاعرية مثل «مدينة الجسور» و«مدينة القنوات» و«مدينة الأقنعة» و«المدينة العائمة».
وسميت أيضاً «مدينة المياه». البريد يوزع بالمراكب، وسيارات النظافة مائية، وسيارات التاكسي هي «الغندول». وقبل أن يغني عبد الوهاب هذه القصيدة الجميلة التي أرسلها إليه علي محمود طه، كان يغني غالباً للحب، لا للمدن. الأغنية المهمة الأخرى من شعر طه كانت «فلسطين». وهذا الرجل الذي لقب «بموسيقار الشرق» هو الذي غنى أيضاً: «حسدوني وباين في عيونهم»، و«بتتقلي ليه»، و«فيك عشرة كوتشينة»، و«مسكين وحالي عدم»، و«مين زيك عندي يا خضرة».



عاجل فيتو أميركي ضدّ عضوية فلسطين في الأمم المتحدة