بانكاج ميشرا
TT

بريطانيا وفرنسا وحسابات الأعراق

ظهر قسم جديد داخل ما كان يُعرف باسم «الغرب». وإثر نزع الشرعية السياسية عن التفوق العنصري الأبيض، شرعت الولايات المتحدة في مراجعة دقيقة لماضيها المعروف من العبودية، وبدأت في الاعتراف الهادف بالتنوع الديموغرافي على أراضيها.
وفي الأثناء ذاتها، بدأت النخب الحاكمة في كل من فرنسا وبريطانيا في التراجع عن الفحص العلني للذات، إثر السعي إلى إرجاء عمليات إعادة صياغة الهوية الوطنية التي تشتد الحاجة إليها.
ولقد تفجرت حالة من الغضب المستمر طويلة الأمد داخل الولايات المتحدة بسبب المظالم العنصرية في العام الماضي، إثر مقتل المواطن الأسمر جورج فلويد. في حين تركزت جهود المحافظين سريعاً على أعمال العنف التي صاحبت الاحتجاجات القليلة لمسيرة «بلاك لايفز ماتر» السمراء. وحاول قليل منهم إنكار الشعور السائد لدى الجميع بأن المظالم قد بلغت حد الكفاية.
وتعامل القادة في المملكة المتحدة مع الاحتجاجات الأميركية والمظاهرات المماثلة لها على الأراضي البريطانية باستياء بالغ وعدم ارتياح عميق. ووصفتها وزيرة الداخلية البريطانية بريتي باتيل بأنها «مريعة». وانتقل حزب المحافظين الحاكم، إلى شن الحرب الثقافية، وحشد الرأي العام الداخلي ضد أولئك الذين قاموا بإسقاط تماثيل مُلاك العبيد في المملكة المتحدة.
وانطلق قطاع كبير من الساسة، والمثقفين، والصحافيين في فرنسا، بما في ذلك الرئيس إيمانويل ماكرون نفسه، إلى مستوى أبعد من ذلك عندما قرروا أن الأفكار الناشئة عن الجامعات الأميركية تمثل تهديداً وجودياً لبلادهم. ووفقاً لصحيفة «نيويورك تايمز»، فإنهم يعتقدون أن «الأفكار التقدمية الأميركية - ذات الصلة الخاصة بالعرق، والنوع، وما بعد الاستعمار - تهدد بتقويض أركان المجتمع الفرنسي».
ربما يبدو هذا النمط الجديد من معاداة الولايات المتحدة باعثاً على الحيرة، لا سيما أن أهدافه - ثقافة الأوساط الأكاديمية المتيقظة - غير محددة المعالم بغموض بالغ. بيد أن الصراحة بشأن تفوق العرق الأبيض والقمع العنصري تضرب في صميم الهوية الوطنية «البيضاء» التي لا تزال شائعة في المملكة المتحدة وفرنسا.
في عام 2014، خلص استطلاع للرأي من أعمال مؤسسة «يوغوف» إلى أن ما يقرب من 6 من كل 10 مواطنين بريطانيين يعتقدون أن الإمبراطورية البريطانية، تلك التي نالتها الانتقادات اللاذعة من عدة شخصيات بارزة من أمثال جورج أورويل وحتى المهاتما غاندي، على اعتبارها مؤسسة عنصرية متوحشة، هي من الأمور الداعية إلى الفخر الكبير. وليس من المستغرب، أن حملة مغادرة المملكة المتحدة لعضوية الاتحاد الأوروبي عام 2016، التي أدارتها حكومة حزب المحافظين آنذاك، كانت قادرة على الجمع بين الحنين إلى الإمبراطورية البريطانية مع الاستدراج الصارخ للأعراق.
لكن نسبة عشاق الإمبراطورية البريطانية قد انخفضت إلى 32 في المائة في استطلاع حديث للآراء. ولا تزال تلك النسبة صادمة برغم كل شيء، وذلك نتيجة لعقود طويلة من التعليم المتواضع حول الإمبراطورية البريطانية في المدارس، والأفلام الكئيبة، والبرامج التلفزيونية بشأن «الهند البريطانية»، والتمثيل الهزيل لكثير من الأقليات العرقية والإثنية في وسائل النشر والإعلام.
ويعترف البريطانيون على الأقل بأن بلادهم تعاني من انعدام بالغ للمساواة في الدخل، والتعليم، والرعاية الصحية على أسس عرقية متنوعة. وبعد مرور ما يقرب من ستة عقود على انهيار الإمبراطورية الفرنسية في الجزائر في نوبة دموية بالغة، لا تزال الأمة الفرنسية في حالة من الإنكار، وترفض النخبة الرسمية الاعتراف بالعنصرية الممنهجة الممارسة وقتذاك.
لم يتم رفع حجاب الصمت المطبق المفروض على تكتيكات الإدارة الفرنسية في حربها ضد المقاومة الجزائرية من القتل والتعذيب والاغتصاب. وفي غضون ذلك الوقت، توغلت الحكومات الجزائرية المتعاقبة بصورة عميقة في صميم السياسات الفرنسية، إذ تمكن جان ماري لوبان، الجندي والجلاد الوحشي الأسبق في الجزائر، من اقتطاع مساحة لليمين السياسي المتطرف في فرنسا، تلك الحركة التي تتزعمها ابنته مارين اليوم في فرنسا.
وليس من المستغرب كذلك، أن يسعى الرئيس ماكرون، الذي يواجه صعوبات جمة تتعلق بإعادة انتخابه رئيساً للبلاد في العام المقبل، إلى الالتفاف على مارين لوبان من تيار اليمين عندما تعمد إدانة الحركة الانفصالية الإسلاموية وكذلك النظريات المستوردة من الولايات المتحدة الأميركية.
وفي حين يفقد الغرب تماسكه شيئاً فشيئاً، تواصل الفجوة الآيديولوجية بين الولايات المتحدة والقارة الأوروبية التمدد والاتساع. وكتب الروائي الأميركي جيمس بولدوين، الذي لاحظ بنفسه الاستياء الأوروبي الواضح من الأقليات السمراء على أراضيها، ذات مرة يقول إن الأميركي من أصول أفريقية، على الرغم من كل الفظائع الوحشية التي تعرض لها في حياته، لم يكن مجرد «زائر» إلى الغرب، وإنما «مواطن» فيه، ولقد كان بنفسه أميركياً حتى النخاع كمثل المواطنين الأميركيين الآخرين الذين يحتقرونه للون بشرته.
بعبارة أخرى، لم تكن الأساليب الأوروبية العنصرية البيضاء القائمة على الإسكات والإخماد، أو مطالبة الناس بالعودة من حيث أتوا، ذات فاعلية تُذكر في الولايات المتحدة، التي صار العبيد القدامى فيها جزءاً حقيقياً لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي العام في البلاد.
علاوة على ذلك، لم تخلق الولايات المتحدة إنساناً أسود جديداً فحسب، وإنما خلقت إنساناً أبيض جديداً أيضاً. ومن وجهة نظر جيمس بولدوين، كان الأميركيون البيض يختلفون جملة وتفصيلاً عن نظرائهم من البيض الأوروبيين، من حيث انخراطهم العميق في حياة الأقليات العرقية في البلاد، سواء كان ذلك للأفضل أم هو للأسوأ.
وحتى مع عدم التسامح الواضح لدى نقاد العنصرية البغيضة في الولايات المتحدة من أمثال جيمس بولدوين، فإنه يدرك تماماً مدى الإنجاز الأميركي المتحقق على أرض الواقع. وفي الحقيقة، قال بأسلوبه الفلسفي في ستينات القرن الماضي إنه «ربما تثبت أهميته التي لا غنى عنها بالنسبة لأولئك الأوروبيين الذين يتمسكون بهويتهم العنصرية البيضاء القميئة».
وفي العصر الحاضر، يعد التقدم العرقي من النمط الذي تحقق بوضوح في الولايات المتحدة الأميركية هو نفسه ما ترغب المؤسسات الفرنسية والبريطانية ذات الأغلبية الساحقة من البيض في تأجيله مع تذمرهم المعلن من ثقافة الاستيقاظ والإلغاء الأميركية الظاهرة.
وربما تستطيع محاولاتهم المستميتة في تحويل إنجاز الولايات المتحدة إلى شبح بغيض في تأمين فوز انتخابي لجولة أو جولتين. ولكن لا ينبغي أبداً التوقع بأن تلك الانتصارات السياسية سوف تكون مجانية تماماً - فهذا من قبيل الانفصال التام عن الواقع الحقيقي.

- بالاتفاق مع «بلومبرغ»