لا تقتصر مشكلة الخلل في التدفق الإخباري العالمي على دول «الجنوب» كما سعت أطروحات مدرسة «نقد التبعية الإعلامية والثقافية» لإقناعنا على مدى عقود؛ إذ تعاني دول في «الشمال» القوي والغني، المشكلة ذاتها، بينما استطاعت دول في الجنوب تجاوزها.
وفي عالمنا العربي، ظلت دول عربية غنية سنوات طويلة تهاب صناعة الإعلام، وتعتقد، لأسباب غير معلومة، أن هذه الصناعة مقصورة على دول بذاتها، وأن الثراء والإعلام النافذ القوي لا يجتمعان. ويبدو أن هذه الدول دفعت أثماناً كبيرة بسبب هذا الموقف، وبعضها تعرّض للابتزاز، أو تضررت مصالحه تضرراً واضحاً جراء عدم امتلاكه أدوات إعلامية محلية أو إقليمية ذات قدرة واعتبار.
وعلى مدى أكثر من عقدين ظلت تلك الدول العربية الغنية تدفع الكثير في تمويل إعلام داخلي محدود التأثير، وتدفع ما هو أكثر في تمويل إعلام إقليمي تمتلكه دول أخرى بأجندة مصالح وأولويات قد تختلف أو تتعارض مع مصالحها ورؤاها.
ولما كان الوضع متفاقماً ولا يمكن السكوت عنه، فقد اتخذ بعض تلك الدول العربية الغنية الخطوة الضرورية والمنطقية؛ فبدأت في تطوير وسائل إعلامها المحلية، كما عملت على تطوير وسائل إعلام إقليمية أو دولية، تستهدف الناطقين بالعربية جميعهم في المنطقة وخارجها في مناطق العالم المختلفة.
وخلال فترة زمنية قصيرة بدا أن خريطة المنطقة تغيّرت من الناحية الإعلامية؛ لتتحول دول المركز إلى أطراف، فيما تتحول دول من الأطراف إلى مراكز. وبات الحديث عن تدفق إعلامي عربي - عربي مختلٍّ صالحاً لإعادة الإنتاج، خصوصاً فيما يتعلق بالأجندة الإخبارية، لكن هذه المرة جاء الاختلال لمصلحة الدول التي ظلت تعاني مشكلاته عقوداً، وفي غير صالح الدول التي لطالما تمتعت بالانفراد بالساحة وتصدُّر المشهد في غياب أي منافسة جادة من الآخرين.
والواقع أن هذا التطور، الذي يبدو أنه محل اتفاق كبير بين كثيرين من العاملين بالإعلام والمطّلعين على أحواله، يظل صالحاً للبناء عليه، ودافعاً قوياً نحو اجتراحه على صعيد آخر يتعلق بالتدفق الإخباري العربي - الدولي المختل أيضاً. فما زلنا في العالم العربي نعاني مشكلات الخلل في التدفق الإخباري؛ إذ نعتمد على ما يَرد إلينا من مواد إخبارية من وسائل إعلام قادرة ونافذة في «الشمال»، تنقل لنا المعلومات والتحليلات والصور، وتنسب معها الصفات والأدوار، وتؤطِّر الأحداث، وتسلِّط الضوء على القضايا المهمة من وجهة نظرها، ثم ترسلها إلينا في «الجنوب»، أما نحن فلا نرسل سوى عُشر ما نستقبل من أخبار تقريباً.
ولقد حذّر باحثون ومفكرون عرب من أن «التدفق الإخباري المختل» سيؤدي إلى تحقيق أغراض «الغزو الثقافي»، و«تسليط الضوء على قضايا ليست ذات أهمية، وتغييب قضايا حيوية أخرى، ونزعها من الأجندة الإعلامية»، فضلاً عن حرمان العالم العربي من إنتاج الأخبار التي تعبّر عن الحقائق كما يراها، والتي تبرز الصورة التي يعتقد أنها صحيحة عمّا يحدث في أرجائه.
والواقع أن الحديث عن «تدفق إخباري مختل من الشمال إلى الجنوب» ليس صحيحاً على إطلاقه، كما أنه ليس بالأمر الحتمي، بل يمكن تجاوزه كما حدث بعض الدول العربية من خريطة التدفق الإخباري العربي البيني، عبر تطوير وسائل إعلام أكثر نفاذية واحترافاً. التدفق الإخباري العالمي مختلٌّ نعم، ولكنه مختل بين دول قوية إعلامياً، تمتلك منظومات إعلامية احترافية، وإرادة للمنافسة، وأخرى تفضل استيراد المنتج الإعلامي جاهزاً.
ثم إن فكرة أن كل دولة في «الشمال» هي مركز لتصدير الأخبار والصور للعالم الثالث المغلوب على أمره ليست سليمة، إذ ثمة دول في هذا «الشمال» مثل كندا والنمسا وفنلندا تعاني أكثر مما نعاني نحن من هيمنة دول «شمالية» أخرى عليها إعلامياً، بسبب ضعف منظوماتها الإعلامية، وعدم تبلور إرادة للمنافسة الإعلامية الجادة، أو لأسباب موضوعية أخرى.
إن النظرية الخاصة بحالة التدفق الإخباري العالمي يجب أن تصاغ على هذا النحو: «التدفق الإخباري العالمي مختل، كما أن التدفق الإخباري العربي البيني مختل. والاختلال، في الحالتين، ليس في اتجاه واحد من (الشمال إلى الجنوب)، أو من الأكبر والأقدم إلى الأصغر والأحدث، كما قيل، لكنه في اتجاه واحد من الأقوى إلى الأضعف إعلامياً، أياً كان نصف الكرة الأرضية الذي يسكنه أيهما، وأياً كان حجم كتلته الحيوية وتاريخ استقلاله».
تبدأ عملية إصلاح خلل التدفق الإخباري، سواء كان عالمياً أو عربياً، بالإرادة، التي يجب أن تعززها الموارد والطموح والإدارة الرشيدة.
7:2 دقيقه
TT
كيف تتغير خرائط النفوذ الإعلامي؟
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة