خلال السنوات الأربع التي توليت خلالها قيادة جهود الحرب داخل أفغانستان بوصفي القائد الأعلى لقوات التحالف داخل «الناتو»، كنت محظوظاً بأن يعمل معي أربعة جنرالات بارعين بوصفهم قادة قوة الأمن الدولية المتمركزة داخل أفغانستان.
وجاء أداء الجنرالات الأربعة: ستانلي مكريستال، وديف بترايوس، وجون ألين (زميل دراسو من أنابوليس)، وجو دنفورد، رائعاً خلال فترة تكليفهم العمل في كابل التي استمرت عاماً. ونال الجنرالات الأربعة شهرة واسعة على صعيد الحرب ضد الإرهاب، ولا أزال أرى كل واحد منهم زميلاً وصديقاً مقدراً.
خلال عملي، اعتمدت على مشورتهم العسكرية يومياً بينما كنت أرفع تقاريري إلى القيادات المدنية رفيعة المستوى للدول الـ28 الأعضاء في حلف «الناتو»، من الرئيس باراك أوباما مروراً بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، ورئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، وصولاً إلى كثيرين آخرين.
كانت هناك اختلافات كبيرة في خلفيات وتوجهات وشخصيات الجنرالات الأربعة، وكذلك خبراتهم القتالية. ومع ذلك، اشتركوا جميعاً في رؤية واحدة مشتركة: أن جهودنا مهمة لضمان أمن الولايات المتحدة وحلفائها، وأنه ينبغي علينا من أجل ذلك البقاء داخل أفغانستان حتى تسمح الظروف بانسحاب «تبعاً للظروف القائمة».
الملاحَظ أن عبارة «تبعاً للظروف القائمة» جرى استخدامها على نحو متكررة خلال السنوات القليلة الماضية في أثناء المفاوضات مع «طالبان» التي كثيراً ما كانت تتوقف ثم يجري استئنافها بين الحين والآخر. ونجحت هذه المحادثات التي قادها على الجانب الأميركي المبعوث الخاص خليل زلماي زاده، في الوصول إلى نقطة أبعد كثيراً عمّا توقعه الكثيرون. ونجحت الولايات المتحدة في تقليص أعداد قواتها باطّراد على امتداد الجزء الأكبر من العقد الماضي.
ومع ذلك، لم تلتزم «طالبان» بالجزء الخاص بها من التعهدات، وتشهد أعمال العنف تصاعداً في الكثير من أرجاء البلاد. والتساؤل الآن: هل ينبغي أن تستمر الولايات المتحدة في تقليص أعداد قواتها؟
دعونا نتحدث هنا بالأرقام. خلال السنوات الأربع التي توليت خلالها القيادة، كان لدينا أكثر عن 150000 جندي منتشرين في مختلف أرجاء أفغانستان، يمثلون ليس فقط الدول الأعضاء في «الناتو»، وإنما كذلك 22 دولة إضافية. وإلى جانب قتال «طالبان»، دارت مهمتنا حول تدريب القوات الأمنية الأفغانية -من جيش وشرطة- كي يحلّوا محلّنا في الخطوط الأمامية. ونجحنا بالفعل في إنجاز ذلك، وبحلول وقت رحيل أوباما عن البيت الأبيض عام 2017 كانت القوات الأميركية قد تقلصت أعدادها بنسبة تتجاوز 90%، لتصل إلى قرابة 15000 جندي.
وخلال رئاسة دونالد ترمب، استمرت أعداد القوات في التراجع، وكذلك أعداد الضحايا. واليوم، وصلت أعداد القوات الأميركية إلى نحو 3000 جندي. وخلال هذا الشهر، حققنا إنجازاً كبيراً، وذلك بمرور عام كامل من دون وقوع قتلى في أثناء أعمال القتال في صفوف القوات الأميركية.
من ناحية أخرى، أثمرت المفاوضات عن اتفاق ينصّ على عودة جميع القوات الأميركية إلى أرض الوطن بحلول الأول من مايو (أيار) -لكن فقط إذا سمحت الظروف بذلك. ومن الواضح للغاية أن الظروف لا تسمح بالانسحاب الكامل، ويبدو من غير الحكمة التخطيط لانسحاب كامل في أي وقت قريب. وأعلنت «مجموعة دراسة أفغانستان» -المكلفة من جانب الكونغرس، ويتولى إدارتها «المعهد الأميركي للسلام»، الذي يشارك في رئاسته دنفورد الذي كان رئيساً لهيئة الأركان المشتركة من عام 2015 حتى 2019- الأمرَ ذاته في تقريرها النهائي الصادر هذا الأسبوع.
وهذا الأسبوع، أخبرني دنفورد خلال حديث دار بيننا، أنه: «تنطوي مفاوضات السلام الأفغانية الجارية على فرصة استثنائية لإقرار السلام والاستقرار في أفغانستان، وينبغي لنا السعي للاستفادة من هذه الفرصة، لكن ينبغي لنا فعل ذلك على نحو يضمن مصالحنا الوطنية، ويُنهي الحرب ويحفظ المكاسب التي حققها الشعب الأفغاني على مدار العقود القليلة الماضية».
بمعنى آخر، ينبغي لنا السعي وراء وضع نهاية ذات معنى حقيقي، في ظل توافر الظروف المناسبة على الأرض قبل رحيلنا عن البلاد.
بصورة جوهرية، تعزز النتائج التي خلصت إليها مجموعة الدراسة فكرة ضرورة الضغط على «طالبان» كي تلتزم بتعهداتها بتقليص أعمال العنف، وعدم السماح بانهيار هيكل الحكم الديمقراطي.
من جهته، يفضل الرئيس الأفغاني أشرف غني، الإبقاء على وجود عسكري في البلاد، ربما في نطاق نحو 5000 جندي. ومن شأن ذلك السماح للقوات الأميركية بالاستمرار في توفير دعم استخباراتي ولوجيستي لقوات الأمن الوطني الأفغانية، وضمان حماية مئات الدبلوماسيين الأميركيين وعمال الإغاثة داخل البلاد، والمضي في برامج تدريب قوات الأمن الوطني الأفغانية، خصوصاً القوات الخاصة، إلى جانب ضمان التزام «طالبان» بالاتفاقات التي تمخضت عنها المفاوضات.
جدير بالذكر في هذا الصدد أن وزير الدفاع الجديد لويد أوستن، سبق له تولي منصب قائد القيادة المركزية الأميركية، والتي تتضمن أفغانستان. وعليه، أتوقع توجيه قدر كبير من الاهتمام والمعرفة التفصيلية إلى القوة المرابطة في أفغانستان.
في الوقت الحاضر، يُجري «البنتاغون» دراسة حول وضع القوات عالمياً، بمعنى تحليل مستويات القوات في جميع المواقع التي تتسم بكثافة مرتفعة في الجنود الأميركيين الموجودين بها: ألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية والكثير من المناطق الأخرى. وأتطلع نحو أن توصي هذه الدراسة بزيادة القوات في أفغانستان إلى 5000. الأمر الذي تطالب به القيادة المركزية على مدار العام الماضي.
الحقيقة أنَّ الحجة الداعية للإبقاء على قوة عسكرية صغيرة، لكن قوية داخل أفغانستان، تبدو وجيهة، ذلك أنه ليس من مصلحة الولايات المتحدة معاينة انزلاق البلاد من جديد إلى حالة الفوضى التي سبقت هجمات 11 سبتمبر (أيلول)، والتي خلقت ظروفاً سمحت لتنظيم «القاعدة» بإحكام قبضته وشن هجمات داخل الأراضي الأميركية. أما التكاليف، فقد تراجعت بالفعل على نحو هائل منذ سحب قرابة 95% من القوات الأميركية هناك. وهناك أيضاً نحو 5000 جندي تابع لحلف «الناتو» من خارج الأميركيين على الأرض في أفغانستان.
ومن المقرر مناقشة مستقبل هذه القوات المشتركة بالتفصيل خلال اجتماع وزراء دفاع «الناتو» هذا الشهر في بروكسل. وإذا ما استمرت الولايات المتحدة في سحب قواتها، فإن أعضاء «الناتو» الآخرين ربما يسلكون النهج ذاته، بينما التوازن الصحيح ربما يتمثل في وجود 5000 جندي أميركي و5000 من القوات المتحالفة -ما يشكّل قوة يمكن الاعتماد عليها في دفع «طالبان» نحو طاولة المفاوضات.
وعلينا أن نتذكر نهاية حرب فيتنام -عندما كانت الطائرات المروحية تنطلق من فوق سطح مجمع السفارة الأميركية لتسطر نهاية فوضوية لمغامرة طويلة ومأساوية. اليوم، نحن بحاجة لتجنب تكرار هذا الأمر في كابل، ليس فقط من أجل أمن أفغانستان، وإنما من أجل أمن الولايات المتحدة أيضاً.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»
8:32 دقيقه
TT
سحب القوات الأميركية والمعضلة الأفغانية
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة