إميل أمين
كاتب مصري
TT

ليبيا: انتصار الوحدة الوطنية أم ماذا؟

في أول خطاب متلفز له بعد العودة من جنيف، دعا رئيس الوزراء الليبي الجديد عبد الحميد الدبيبة، الليبيين، إلى الالتفاف حول هذه الحكومة، من أجل إعادة بناء البلاد، وأعرب عن استعداده للاستماع إلى الجميع، والعمل معهم، مهما كانت الأفكار مختلفة والأطياف متباينة.
الدبيبة اعتبر أن فوز قائمته يمثل رمزية انتصار الوحدة الوطنية ولم الشتات وتحقيق الديمقراطية، مضيفاً أن هذا التطور يعني إجراء الانتخابات على أسس ديمقراطية في ظل احترام الدستور، وتطوير علاقات مع دول الجوار لخدمة المصلحة العامة وتحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة.
ولكن: هل ما تقدم خطاب حقيقي واقعي أم أحلام تنتمي للعالم اليوتوبي؟
قبل الجواب، نود الإشارة من القلب إلى الأمل في أن تقوم ليبيا الموحدة المستقلة، مرة جديدة، على كامل ترابها الوطني، لكن الأفق الواضح على الأرض لا يشير إلى ذلك، فالقضية الليبية باتت أعقد مما هو ظاهر على السطح، لا سيما أن حكومة الدبيبة هي خامس حكومة منذ سقوط نظام القذافي. وأمام الليبيين تحديات جسام، هي نتاج عقد من التشارع والتصارع الداخلي من جهة، والمؤامرات والتدخلات الخارجية من جهة ثانية.
على رأس القائمة تأتي فكرة المصالحة الوطنية، إذ لا شيء يمكن أن يتحقق إلا عبر التفاهمات الداخلية، التي تنزع الخبيث من الوسط، لتعود المياه الليبية إلى مجاريها هادئة وطنية، صافية رقراقة.
يلي ذلك الرهان على قضية الأمن، وهذه إشكالية عريضة ومتشعبة، بخاصة بعد أن أعلنت الأمم المتحدة في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، عن وجود نحو 20 ألف مرتزق وعسكري و10 قواعد عسكرية تؤوي جزئياً، أو بشكل كامل، قوات أجنبية في البلاد. وفي تفاصيل المسألة الأمنية، العشرات من الجماعات الميليشياوية، ذات الانتماءات الآيديولوجية والعقدية المختلفة، التي تتلقى أوامرها ونواهيها من دول خارجية.
تفاصيل التحديات طويلة، ولكن يكفي المرء التوقف عند النقطتين المتقدمتين، ومساءلة واقع الحال، بخاصة في ضوء أول تصريحات للسيد الدبيبة، التي أدلى بها نهار السبت الماضي لوكالة «الأناضول»، فما معنى قوله للوكالة المذكورة؟
أول ما فاه به الدبيبة للوكالة التركية، لسان حال إردوغان، كان كالتالي: «لدينا تضامن كبير مع الدولة والشعب التركيين، وتركيا حليفة وصديقة وشقيقة، وعندها من الإمكانات الكثيرة لمساعدة الليبيين، في الوصول إلى أهدافهم الحقيقية، وهي تعتبر من الشركاء الحقيقيين لها». ثم يقول مفاخراً بأن: «تركيا قد فرضت وضعها ووجودها في العالم، وليس في ليبيا فقط، وهي الدولة الوحيدة التي استطاع الليبيون الذهاب إليها بحرية خلال فترة الحرب».
هذا هو إذن موقف الرجل المنوط به إحداث المصالحة الوطنية من تركيا، فكيف يقول هذا وهو يمثل النسيج المجتمعي الليبي الموحد، وتركيا أغرقت هذا النسيج بالمرتزقة؟
وفي تسلسل لا يغيب عن العين، وجدنا في اليوم التالي تصريحات لياسين أقطاي مستشار إردوغان، يؤكد فيها أن الاتفاقيات التي كانت قد عقدتها تركيا مع حكومة الوفاق الليبية السابقة، برئاسة فائز السراج، والوجود العسكري التركي في ليبيا، لن يتأثرا باختيار الحكومة المؤقتة الجديدة.
ناهيك عن ذلك، فإن أقطاي يقطع بأن تركيا توجد في ليبيا بدعوة من الشعب الليبي وحكومة الوفاق، وأن الحكومة المؤقتة الجديدة لا تعارض هذه الاتفاقات ولا الوجود التركي في البلاد، بل على العكس تدعم الدور التركي هناك.
والشاهد أننا لم نستمع إلى أي تعليق لا من السيد المنفي رئيس المجلس الرئاسي الليبي الجديد، ولا من الدبيبة، بل إن تصريحات الأخير المتقدمة تثبت وتعزز توجهات تركيا في ليبيا، الأمر الذي يتسق معه القول الشهير... احترس السيارة ترجع إلى الخلف.
لا نريد أن نقول إن توجهات الدبيبة وتركيا تقطع الطريق على أي مصالحة حقيقية، ولكن إذا كانت المصالحة جدية فلا بد أن تبدأ بحل كافة الميليشيات الموجودة على الأراضي الليبية، وإدماج ما يصلح منها في داخل الجيش الوطني الليبي، ومطاردة الجماعات الإرهابية الممولة من الخارج. وإلغاء الاتفاقات غير القانونية، وطرد المرتزقة.
فهذه التصريحات تبدو منافية ومجافية لتوجهات الأمم المتحدة وللموقف الأميركي الذي عبر عنه ريتشارد ميلر، القائم بأعمال المندوب الأميركي لدى الأمم المتحدة، فقد طالب الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بخروج كل القوات الأجنبية من البلاد، أما ميلر فقد طلب من روسيا وتركيا سحب قواتهما من ليبيا بأسرع وقت.
من تحديات جنيف ملف النفط الذي لم يأخذ حظه في المفاوضات، وهو الفرصة المتبقية لليبيا لإعادة البناء، قبل أن ينتهي زمن عصر النفط ويفقد حضوره الاقتصادي.
وقعت الأطراف الليبية في 23 أكتوبر (تشرين الأول) على اتفاق وقف إطلاق النار، وانسحاب القوات الأجنبية والمرتزقة خلال ثلاثة أشهر، وها قد مضت الفترة المحددة ولم يلتزم بها أحد.
في جنيف بدا حديث المفاوضات أقل صخباً من دوي المدافع في ليبيا، ما يجعل المستقبل الليبي غائماً وغائباً حتى إشعار آخر.