خالد البري
إعلامي وكاتب مصري. تخرج في كلية الطب بجامعة القاهرة، وعمل منتجاً إعلامياً ومراسلاً سياسياً وحربياً في «بي بي سي - عربي»، وغطى لحسابها «حرب تموز» في لبنان وإسرائيل، وعمل مديراً لمكتبها في العراق. وصلت روايته «رقصة شرقية» إلى القائمة النهائية لـ«بوكر العربية».
TT

الديمقراط والديمقراطية والتنظيمات

تحوّلت كلمة الديمقراطية في الكتابات المعاصرة إلى ما يشبه المقدّس. إحدى المثالب الكثيرة لهذا التقديس أنه يصرف أنظار ذوي العقول الحرة عن الاقتراب منها عند تشخيص حالة مجتمع، أو التفكير في دوائه. الديمقراطية تقدمها هنا على أنها غذاء ضروري. فهل هذا ما نقرأه من التاريخ الماضي والحاضر؟
الديمقراطية لم تكن «مُعامل النجاح» في تقدم الدول التي توصف حالياً بالديمقراطية. إنجلترا انتقلت من دولة هامشية إلى أن صارت بريطانيا العظمى، قبل أن تعرف الديمقراطية بالمعنى المتعارف عليه. احتضنت في قرن توهجها الـ17 إسحاق نيوتن، وشكسبير، وجون لوك، وفرنسيس بيكون، أعلامها في العلم والأدب والفلسفة، وهي لا تنتخب. ثم انتقلت نقلتها الاقتصادية الكبرى في القرنين التاليين؛ الـ18 والـ19، بالرأسمالية والثورة الصناعية، قبل أن تمنح حق الانتخاب لنصف المجتمع من النساء، ولمعظم الرجال ممن لا أملاك لهم.
منطق هذا لم يكن عصياً على الفهم. إنْ كنت لا تملك ستنتخب بلا اكتراث. قد تختار مثلاً مَن ينزع الثروة من أيدي ذوي العقول الاستثمارية المميزة، على وعد بتوزيعها عليك. لو فعلت هذا في طور الانتقال الاقتصادي لَما تطورت بريطانيا بالشكل الذي تطورت به.
مسار مشابه شهدته فرنسا من حيث الانتخاب، حصلت المرأة على حق الانتخاب في 1944 (1917 في روسيا و1920 في جورجيا). أما الولايات المتحدة فخاضت حرباً في القرن الـ19 تحرّر على أثرها من العبودية سدس سكانها (السود وآخرون). وبدأ رئيسها الحالي تعليمه الجامعي قبل أن يحصل الأميركيون السود على حقوق متساوية.
الخلاصة... لم تكن الديمقراطية قط نقطة البدء، ولا مُعامل النجاح، بل الحريات: التملك والتفكير وإدارة شؤون النفس. أكثر من ذلك، كانت الديمقراطية نقطة البدء في تجارب أخرى فاشلة، أُسقطت فيها الديمقراطية إسقاطاً.
حين تنظر إلى جماعة كفلول العثمانيين في مصر، أو كـ«حزب الله» في لبنان، تلاحظ أن ما يجمع بينهما رفضهما للتطور الاجتماعي. كلاهما قوة غرضها الدفاع عن القديم. ومن هنا، من هنا بالذات، تأتي شعبيتهما.
فهم يريدون استمرار الدولة بشكلها القديم، تحت سقف مرشد أعلى، وبتراتُب للمواطنين عماده الدين لا القانون. اليسار، لا يريد الثبات الاجتماعي، لكنه يفعل الشيء نفسه في منظومة النشاط الإنتاجي. تحت مسمى العدالة الاجتماعية يمنع تراكم الثروة في يد مَن يجيدون تشغيلها، ويمنح المتأخرين عن قطار الأنشطة الجديدة منحاً لا يستحقونها. والنتيجة تفتيت الثروة تمهيداً لإهدارها. والنتيجة الأخرى منع تكوين مراكز نفوذ بديلة خارج السلطة القائمة وانتفاء غرض الديمقراطية من أساسه، هذا ما حدث في الكتلة الشرقية. رغم ذلك، لا تتوانى هذه التنظيمات عن رفع شعار الديمقراطية.
استخدام شعار الديمقراطية حتى في حالة التنظيمات الإسلامجية التي قضت عمرها تحارب الحريات، مربح سياسياً لأكثر من وجه، موجود بين ثنايا ما سبق من المقال، لكني أستخلصه مرة أخرى بصورة أكثر مباشرة.
الوجه الأول، أن الديمقراطية صارت لفظة محمّلة بالمعاني الإيجابية، ومرتبطة بدول متقدمة، وبالتالي مغرية لجذب الجمهور دون كثير عناء. في حين أنك تحتاج إلى شرح مستفيض لكي تقول الحجة الأخرى: إن الديمقراطية جاءت نتيجة وليست نقطة انطلاق. بلغت صورتها الحالية في القرن العشرين لا السادس عشر. وإن نقطة الانطلاق كانت حريتي التملك والتفكير. الأولى تحاربها تنظيمات اليسار، والثانية ترفضها التنظيمات الدينية، وتعاقب «مقترفيها».
الوجه الثاني، العالم الخارجي. الدول المتقدمة فيها أجيال وُلدت ولم تعرف سوى الديمقراطية. هذه التنظيمات التي تقمعنا في بلادنا تحتاج إلى كلمة سر واحدة لكي تفتح مغارة عقول الغربيين. الكلمة هي الديمقراطية. ما سيحدث بعد أن تنال الدعم وتصل إلى السلطة لا يهمها. ستخرج بسهولة من الأدراج دعاية الوجه الآخر المحرض على الغرب وعلى الديمقراطية والعلمانية وحرية العقيدة، وعلى المواطنين من الديانات الأخرى. والأجانب أيضاً لن يهمهم، سيكلفهم الموضوع إيران إضافية كالتي أعطوا الضوء الأخضر لثورتها، واكتوينا نحن بميليشياتها، أو أفغانستان إضافية تحقق غرضها الاستراتيجي فإن تجاوزته دكّتها القاذفات الثقيلة إلى قرون خلت، أو مشكلة لاجئين إضافية يغلقون في وجوههم الأبواب بضغط «الرأي العام».
الرئيس باراك أوباما كان واعياً تماماً لما يفعل، إذ يقوّي إيران على حساب جاراتها. كان يعد ذلك نوعاً من إحداث التوازن. يعمّق -من وجهة نظره- مصالح الولايات المتحدة ويريح دماغها.
الديمقراط في أميركا، كما اليسار في بريطانيا، مستفيدون من تحالفاتهم مع الإسلامجية. مستفيدون انتخابياً في الداخل، ومستفيدون استراتيجياً في الخارج. الإسلامجية حوّلوا الجاليات المسلمة إلى جماعات وظيفية سياسية تؤدي مهام سياسية مقابل ثمن يقبضه التنظيم. وصول الإسلامجية إلى السلطة عندنا ثمن زهيد لبقائهم هم في السلطة عندهم. والتبرير الأخلاقي جاهز من خلال أعينهم هم، لا أعيننا. الديمقراط يرون دعم المسلمين متجلياً من خلال دعم فتاة محجبة أو انتخابها للكونغرس، حيث المحجبة أقلية هناك.
لكنهم لا يفكرون في أن الوضع لدينا مقلوب. المحجبات لدينا لسن أقلية. نفس التنظيم الذي يدعم المحجبة في أميركا هو الذي يضطهد غير المحجبة هنا. وبالتالي، من يحتاج إلى الدعم لدينا هن النساء اللاتي لا يملكن حرية الاختيار بسبب ضغط التنظيمات الدينية المنظم في الشارع. وقِسْ على هذا.
نعم، حكوماتنا ليست ديمقراطية، لكنها على هذا أفضل من تنظيم ديني لا يريد من الديمقراطية سوى الانتخاب، ويحاضر جماهيره بهذا. ما نحتاج إليه ضمان الحريات الشخصية كالتملك والتعبير والمواطنة، وهي مهمة شاقة تحتاج إلى سلاح نظامي في مواجهة ميليشيا التنظيمات.
إن غاب هذا السلاح النظامي فالنتيجة لبنان (ديمقراطي)، العراق (ديمقراطي).
يعرف الديمقراط أدبيات التنظيمات، ويعرفون نتيجة تجارب التصويت قبل تمكين الحريات، لكنهم لن يبالوا. اللعبة مربحة، والشعار جاهز.