عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

الصحافة المطبوعة الناجحة

خبران أثلجا صدور الصحافيين الكلاسيكيين بنجاح مطبوعتين، ليس بالتكنولوجيا وإنما بالعمل بأهم مبادئ الصحافة منذ تواصل الإنسان البدائي بالرسم على جدار الكهف قبل تطور اللغة؛ مبادئ كالتحقيق والاستقصاء، والاستماتة في الدفاع عن حرية النشر، فمن يبرر الرقابة - لأي سبب - لا ينتمي إلى مهنة فقد فيها 42 من الزملاء حياتهم العام الماضي (49 في 2019، 43 في 2018، 95 في 2017).
الخبر الأول عن انتصار مزدوج لصحيفة «نيويورك بوست» التي أطلقها في 1801 ألكسندر هاميلتون (1755 - 1804)، ويعد من مؤسسي الولايات المتحدة ومن المتحمسين للدستور والحقوق الدستورية للفرد، إذ حققت أرباحاً في الربع الأخير من 2020، بينما تخسر معظم الصحف المطبوعة.
الشركة الأم (نيوز كوربوريشون)، المملوكة لإمبراطور النشر روبرت ميردوخ، وهو أكثر دراية من منافسيه بالصحافة وسوق استهلاكها، بلغ دخلها مليارين و410 ملايين دولار في الفترة نفسها، رغم تقليل توزيع الصحف بسبب انتشار الوباء.
«نيويورك بوست» أيضاً صمدت في دفاعها عن مبادئ حرية التعبير، بعد تراجع «تويتر» الأسبوع الماضي عن تجميدها حساب «نيويورك بوست» في 30 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، ضمن الحملة التي شنتها المؤسسة الليبرالية والدولة العميقة للحيلولة دون إعادة انتخاب دونالد ترمب رئيساً لفترة ثانية، حيث تؤيده أغلبية قراء الصحيفة. ولعل صمت الصحافيين الليبراليين (الذين أنستهم كراهيتهم الآيديولوجية لترمب أهم مبادئ العمل الصحافي) عن تجميد حساب صحيفة عريقة ما شجع مليارات التواصل الاجتماعي على التمادي وخنق حرية التعبير.
تحججت «تويتر» بأن خبر «نيويورك بوست» عن تورط ابن جو بايدن في فضيحة مالية مع رجال أعمال من أوكرانيا في 2014 تضمن معلومات حصلت عليها الصحيفة «بوسيلة غير مشروعة باختراق حسابات بنكية»، وهو أمر يقرره القضاء المستقل (الذي لم يلجأ بايدن أو ابنه إليه لأن الخبر كان صحيحاً)، وليس أصحاب «تويتر».
الموقف المشرف للصحيفة برفضها الرقابة أدى إلى زيادة التوزيع والاشتراكات على موقعها (وزميلتها في المؤسسة «وول ستريت جورنال»)، حسب روبرت طومسون، مدير «نيوز كوربوريشون».
الخبر الآخر بريطاني، يفيد بزيادة توزيع مجلة «برايفت-آي» (المخبر الخصوصي) الساخرة، ليصل إلى 231 ألفاً ومائة نسخة، ويفوق توزيع مجلة «الإيكونوميست» العريقة التي تبلغ ميزانيتها 75 ضعف ميزانية المجلة الساخرة (توزع «الإيكونوميست» 155 ألفاً و358 نسخة في بريطانيا، متراجعة 6 في المائة عن يناير (كانون الثاني) 2020)، بينما كان توزيع «برايفت-آي» 182 ألفاً و600 نسخة قبل إغلاق الوباء النشاطين الاجتماعي والاقتصادي.
«برايفت-آي» ليست مجلة كاريكاتير كـ«تشارلي إيبدو» الفرنسية، وزميلتها «لكاناردي أورشينيه»، وإنما مجلة كتابة تنتمي إلى المدرسة الأنغلوساكسونية، وتروق للمزاج الذي ينفرد به البريطانيون، فلا مثيل لها في بلدان لغة شكسبير الأخرى، ككندا أو أستراليا، وليس لها موقع إلكتروني يتجدد أسبوعياً، فالقراء يتلقون النسخة المطبوعة بالبريد أو يشترونها من باعة الصحف.
سر النجاح هو الاستمرارية في أسلوب وتقنية المدرسة الصحافية الكلاسيكية، فالمجلة حيادية تتساوي الرقاب يميناً ويساراً أمام سيفها البتار في سخريته النقدية اللاذعة. كما أنها لم تركب موجة الـ(woke) اليسارية الليبرالية (الحركة النسوية التفوقية، والترويج للمثليين، وهستيريا التغير المناخي، وبقية المنظومة الفكرية التي تمثلها «الغارديان» والـ«بي بي سي»)، بينما ألبس الآخرون صحفهم ثياب الموضة الليبرالية طمعاً في زيادة توزيع لم تتحقق.
السخرية في «برايفت-آي» تقربها من عقل القارئ وقلبه، لكنها مجلة «شؤون الساعة» تعتمد على التحقيقات الصحافية لأمور لا تعبأ بها الصحف الكبرى، كـ«التايمز» و«الغارديان»، لكنها تهم الأفراد البسطاء، كالفساد على مستوى البلديات والحكومات المحلية، ومغالاة المحامين في الأتعاب، والأطباء في أجرة الكشف في العيادات الخاصة. كما تغطي السياسة الخارجية، بنشرها رسالة بريدية من بلد معين، خاصة بلدان الحكومات الديكتاتورية التي تنتهك حقوق الإنسان. والمنطلق دائماً استهداف أصحاب السلطة والنفوذ لحساب الرجل البسيط. وهي تستقطب متخصصين في مجالاتهم تحت الاسم القلمي (المستعار).
ونستعرض هنا نموذجاً لأسلوبها بالكاتب الوهمي «دكتور ب. تشينغ» (الاسم القلمي لمتخصص في اقتصادات المواصلات) في عموده «السيمافور المعطل» (تعطل إشارة تحريك القطار)؛ التبرير الذي تتبعه السكك الحديدية البريطانية عند تأخر القطارات وتعطلها. دكتور «ب. تشينغ» عند النطق يكون مثل «بيتشينغ»، إشارة إلى اللورد ريتشارد بيتشينغ (1913 - 1985) الذي كان مديراً لمصلحة السكك الحديدية البريطانية (قبل تخصيصها بإصلاحات ثاتشر في 1985)، المتهم بتخريبه أقدم وأكبر شبكة سكك حديدية في العالم بخطته عام 1965 التي أدت إلى إغلاق 2363 محطة قطار (55 في المائة من محطات المملكة المتحدة)، وتفكيك 8 آلاف كيلومتر (30 في المائة من قضبان السكة الحديد) لتوفير النفقات.
«السيمافور المعطل» يكشف في مقالاته إخفاقات خدمات السكة الحديد والإهدار في المال. وهناك عشرات الأمثلة، كباب بعنوان «فساد البلدية»، وآخر عن التلاعب في البورصة وسوق المال، وواحد عن المحاكم والمحاماة، كما هناك صفحتان بعنوان «شارع العار»، في سخرية من نفاق شارع الصحافة وازدواجية المعايير. الأبواب المتخصصة ضمنت قراء ثابتين بين المهتمين، كالعاملين في السكة الحديد والحكومات المحلية، ورجال الأعمال والصحافيين، الذين ربما يشترونها تأكداً من أن حبر «برايفت-آي» لم يلوث وجوههم.
الأبواب وأسلوب المجلة لا يزالان كما وضعهما مؤسسوها في 1961، كتطوير لمجلتهم المدرسية «ابن الريف»؛ رسام الكاريكاتير ويليام رشتون (1937 - 1996)، وريتشارد بووكر (1937 - 2019) الذي تخصص في كشف تلاعب الباحثين في مجال البيئة ببرامج الكومبيوتر، وريتشارد إينغرام أول رئيس تحرير للمجلة الذي تركها في 1992 ليؤسس مجلة «ذي أولدي» أو «العجوز»، بصفتها تكملة لـ«برايفت-آي» بين القراء من أصحاب المعاشات.
عندما سئل صحافي رئيس تحرير «برايفت-آي»، إيان هيسلوب: لماذا لا تطلق نسخة أون-لاين ووباء «كوفيد» ألزم الناس بيوتهم فلجأوا للإنترنت؟ أجاب: «الناس تعب بصرها من النظر إلى المواقع والشاشات، هل تريدون مني المساهمة في إفساد بصر الشعب كما أفسدتم بصيرته؟»؛ والمعني مزدوج.
أما إجابته عن الاستمرار في الطباعة بالتكنولوجيا القديمة، بدلاً من برامج الكومبيوتر في الإخراج، فقال: «لستة عقود نقص ونلصق ونصور على ماكيت زرق فوق مائدة بنجاح بأقل التكاليف، وبلا تعطل كومبيوتر، وشراء برامج تشغيل جديدة كل عام، وشراء برامج مكافحة فيروسات الكومبيوتر».
وبصفتي صحافياً بتجربة تفوق خمسة عقود في بلاط صاحبة الجلالة (الصحافة)، أشهد بأن هيسلوب على حق في كل إجاباته.