جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

لندن وبروكسل ومعركة أخرى

قبل أن تقرر الحكومة البريطانية، ممثلة بوزارة خارجيتها، الانزلاق، عمداً، في طريق يقود إلى فتح جبهة جديدة مع بروكسل، بإعلان معركة استفزازية على بعثة الاتحاد الأوروبي في لندن، سبقتها إلى ذلك إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب، من منطلق كراهيتها للاتحاد الأوروبي، حين قررت في عام 2018 تخفيض الصفة الدبلوماسية لسفير الاتحاد الأوروبي في واشنطن وأعضاء البعثة. إدارة الرئيس السابق ترمب، لحسن الحظ، تراجعت عن قرارها بعد فترة قصيرة، تحت ضغوطات شديدة من سفيرها لدى الاتحاد الأوروبي. الحكومة البريطانية، قصداً، تجاهلت حكاية الموقف الأميركي، وقررت من باب ممارسة صلاحياتها، كدولة مستقلة خارج الاتحاد الأوروبي، استفزاز رئاسة الاتحاد بألا تمنح السفير وأعضاء البعثة الأوروبية البالغ عددهم 44 موظفاً الصفة الدبلوماسية المقررة. وفي تبريرها للرفض، قالت وزارة الخارجية البريطانية إن الصفة الدبلوماسية - وفقاً لمعاهدة فيينا للعلاقات الدبلوماسية لعام 1961 - تمنح للدول وليس للمنظمات الدولية مثل الاتحاد الأوروبي. وبالتالي، فإن بنودها لا تسري على رئيس وأعضاء بعثة الاتحاد الأوروبي في لندن، لأن الاتحاد ليس دولة مستقلة، بل منظمة دولية.
خلفية الحرب المعلنة أحادياً هذه، لمن لا يعرف تفاصيلها، ليست جديدة تماماً، كما قد يبدو للبعض. إلا أن تزاحم الأحداث سياسياً وتداعياتها، وما أحدثه الوباء الفيروسي من ارتباك على جميع المسارات والأصعدة في مختلف دول العالم، حجبتها، مؤقتاً، عن الأنظار. لكن مع توالي الأيام والأسابيع، لم يعدّ من الممكن مواصلة الحجب، ومنعها من الوصول إلى وسائل إعلام بريطانية وأوروبية، تلقفتها من الهواء كهدية مرسلة، وبدأت في ملاحقة تطوراتها. وما حدث، هو أن سفير الاتحاد الأوروبي وصل إلى مدينة لندن منذ بداية الصيف الماضي، بعد أن خرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي استدعى تغيير المكتب التمثيلي للاتحاد في لندن إلى بعثة دبلوماسية. وبدلاً من ممثل الاتحاد الأوروبي في لندن صار للاتحاد سفير. ومنذ ذلك الحين، لم تمنح وزارة الخارجية البريطانية بعد السفير الاتحادي الأوروبي الصفة الدبلوماسية الكاملة الممنوحة لغيره من سفراء الاتحاد الأوروبي في 142 دولة في العالم، ولا أظن أنها ستفعل مستقبلاً.
آخر التطورات تشير إلى حالة غضب في أروقة الاتحاد الأوروبي في بروكسل، تجسدت في رسالة أخيرة، سُربت محتوياتها إلى وسائل الإعلام، بعث بها رئيس الشؤون الخارجية بالاتحاد إلى نظيره البريطاني. الرسالة، كما اتضح، واحدة ضمن مراسلات عديدة، وإن كانت أكثرها انتقاداً للتصرف البريطاني، وأشدّ تحذيراً من مغبة ما قد يترتب عليه مستقبلاً من تأثيرات سلبية.
ولمن لا يعلم، فإن معاهدة فيينا للعلاقات الدبلوماسية بين الدول لعام 1961 ودخلت حيز التنفيذ عام 1965 هي «معاهدة دولية تحدد إطاراً للعلاقات الدبلوماسية بين بلدان مستقلة... وهذا يشكل قواعد قانونية للحصانة الدبلوماسية، واعتبرت بنودها حجر الأساس للعلاقات الدولية الحديثة. والدبلوماسيون الذين يمثلون بلدانهم يستمتعون بحصانات دبلوماسية تحميهم من التعرض للمحاكمة في البلدان التي يعملون بها طوال فترة وجودهم فيها بصفتهم دبلوماسيين».
التقارير الإعلامية تشير إلى تخوّف رئاسة الاتحاد الأوروبي مما قد يترتب على التصرف البريطاني من نتائج في بلدان أخرى، لا تخفي عداءها لبروكسل، وتبدي انزعاجها من ممارسات سفرائها، فيما يتعلق بحماية حقوق الإنسان في تلك الدول. وعلى سبيل المثال، ذكرت التقارير أن سفير الاتحاد الأوروبي لدى روسيا البيضاء، قام في العام الماضي بتقديم دعمه ومناصرته لاثنين من الدبلوماسيين البريطانيين الذين طردتهم حكومة منسك خلال فترة انقضاضها على حركة المعارضة.
السيد ميشيل بارنييه، من قاد مفاوضات الخروج عن الجانب الأوروبي مع الوفد البريطاني، وصار الآن مستشاراً خاصاً بالشؤون البريطانية لرئيسة الاتحاد، طالب الحكومة البريطانية بحسن التصرف في الموضوع، والبحث عن حل ذكي، قائلاً: «سوف نرى ما سيكون عليه القرار الأخير، الذي ستتخذه الحكومة البريطانية في هذا الشأن، لكن عليهم أن يكونوا حريصين».
ومن جانبها، نفى ناطق باسم الحكومة البريطانية أن يكون لقرار الحكومة أي تأثير على العمل الدبلوماسي لسفارة الاتحاد الأوروبي، ومؤكداً أن السفارة والعاملين بها سيتلقون الامتيازات والحصانات الضرورية لقيامهم بواجباتهم في بريطانيا.
في حين أن وزارة الخارجية البريطانية رفضت التعليق على الموضوع على اعتبار أن التفاوض حول طبيعة العلاقات، على المدى الطويل، بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي، ما زال مستمراً «وليس من المناسب التكهن حول تفاصيل الاتفاق النهائي».
السيد دومينيك راب وزير الخارجية البريطاني الحالي، متخصص في القانون الدولي، وسبق له العمل بالفريق القانوني في الوزارة، وهو من هذه الناحية على علم ودراية بحيثيات القانون الدولي. التقارير الإعلامية تؤكد أن السيد راب مصرّ على موقفه في عدم منح الصفة الدبلوماسية لسفارة الاتحاد الأوروبي، إلا أن تصرفه أثار حفيظة العديد من كبار المسؤولين في حزب المحافظين، ومن ضمنهم وزراء مرموقون في الحكومة السابقة برئاسة السيدة ماي. وهناك، أيضاً، تخوّفات مما قد يثيره الموقف البريطاني من رد فعل أميركي، بعد وصول الرئيس المنتخب جو بايدن إلى البيت الأبيض.