د. ياسر عبد العزيز
TT

هل «الإنترنت» أداة إجرامية؟

إذا كتبت على محرك البحث في موقع الفيديوهات الشهير «يوتيوب» كلمة «تحريف»، فستظهر لك ثلاثة اقتراحات على النحو التالي: «تحريف الإنجيل»، ثم «تحريف القرآن»، ثم «تحريف التوراة». وإذا اخترت الاقتراح الأول على سبيل المثال، فإنك ستجد آلاف الروابط التي تتخذ عناوين متباينة، لكنها تخدم الفكرة ذاتها، وتشرحها وتسعى إلى تأكيدها باستفاضة، وهو الأمر الذي ينطبق بطبيعة الحال على الاقتراحين الآخرين.
دع «يوتيوب»، واذهب إلى محرك البحث الشهير «غوغل»، ثم اكتب في خانة البحث ذلك السؤال: «كيف أصنع قنبلة؟»، ستجد عشرات المواقع التي توضح لك الطريقة، وتحدد لك المواد المطلوب أن توفرها لذلك الغرض. ومن بين تلك المواقع، على سبيل المثال، ستجد موقع مجلة «وحرِّض المؤمنين»، وهي مجلة دورية تصدر عن تنظيم «قاعدة الجهاد في جزيرة العرب». ومن خلال هذا الموقع سيمكنك مطالعة محتوى ذي طبيعة إرهابية تحريضية بامتياز، وستتعلم بالطبع كيف يمكن أن تعد قنبلة «في مطبخ والدتك» كما تقول المجلة.
من جانبي، يكفي هذان المثلان الواضحان؛ لكي يترسخ اعتقادي بأن تلك الشبكة العنكبوتية التي ساعدت العالم على بلوغ أهداف نبيلة، ويسّرت له إدراك غايات سامية، باتت في جانب منها «أداة إجرامية».
سيقول نُقاد إنّ هذا «حكم متسرّع»، أو ربما «مبالغة في المخاوف»، لكنني سأرد ببساطة بأن المشكلة ليست في وجود المحتوى الضار، الذي يمكن أن يذوب ضمن سيل منهمر من المحتويات الإيجابية، ولكنها تكمُن في الطبيعة التي تتبعها «الإنترنت» في عملها، ومعها وسائط ما يسمى بـ«التواصل الاجتماعي»؛ أي اعتماد الخوارزميات.
والخوارزمية (Algorithm) ببساطة هي مصطلح ترجع نسبته إلى العالِم أبي جعفر محمد بن موسى الخوارزمي، الذي ابتكرها في القرن التاسع الميلادي، ووفق أفضل تعريف لها فهي «مجموعة من التعليمات الرياضية المنطقية المصممة لأداء مهمة معينة؛ يمكن أن تكون عملية بسيطة مثل جمع أو طرح رقمين، أو معقّدة مثل تشغيل ملف فيديو مضغوط».
لكن محركات البحث، ومعها وسائط ما يسمى بـ«التواصل الاجتماعي»، تستخدم الخوارزميات كأداة عمل رئيسية، بحيث توفر آلية لـ«عرض النتائج الأكثر صلة بكلمات مفتاحية محددة من فهرس البحث الخاص بها».
يعني هذا أن «الإنترنت»، ومعها تلك الوسائط الرائجة، يتعرفان أولاً على ما يريد أن يبحث «المستخدم» عنه، أو يتوقعانه، ثم يبالغان بإفراط في توفير الإجابات. وعندما تحدث هذه الإتاحة المفرطة والكثيفة والمتنوعة في آن، فإن «المستخدم» يبقى داخل هذا المجال «المعرفي» ويتكرس إدراكه له، وهو أمر يُسهم في تشكيل معرفته، ومهاراته، واتجاهاته، وصولاً إلى دفعه إلى قرار وسلوك معينين.
الأخطر من ذلك، أن بعض الباحثين الثقات؛ ومنهم جوان دونوفان، عالمة الاجتماع المتخصصة في بحوث «الإنترنت» في جامعة هارفارد، يعتقدون بأن البشر أيضاً ينطوون على خوارزميات مشابهة لتلك التي تعتمدها الوسائط الإلكترونية، وأنهم يقومون بدورهم باتباع الأفكار والكلمات المفتاحية داخلياً، بحيث يُشكّلون نسقاً معرفيّاً ووجدانيّاً تابعاً لها وبناء عليها.
يقودنا هذا إلى استخلاص مهم، مفاده أن الحالة المعرفية والوجدانية المؤهلة للتطرف واجتراح العنف والتمييز والكراهية تأتي عبر مصادر كثيرة، وأن الخوارزمية مصدر أساسي بينها. وتفيد البحوث التي أجراها «المركز الدولي لدراسات الحركات الراديكالية»، ومقره بريطانيا، بأن مواقع «التواصل الاجتماعي» باتت مصدراً أساسياً للتجنيد والإلهام والمعلومات لعدد كبير من الإرهابيين. ونتيجة للدراسات التي أجريت على عشرات المقاتلين الأجانب الذين انضموا لـ«داعش» في سوريا والعراق، اتضح أن 80 في المائة منهم تم تجنيدهم عبر تلك المواقع. فعلى مدى سنة كاملة، كرّست مجموعة من الباحثين التابعين للمركز نفسها لمتابعة نشاط نحو 190 من المقاتلين الأجانب في صفوف «داعش»، وتوصلوا إلى أن شبكات «التواصل الاجتماعي»، خصوصاً «فيسبوك» و«تويتر» و«يوتيوب»، لعبت الدور الأساسي في تعزيز الحالة «الداعشية».
ويقول السير ديفيد أوماند في كتابه «استخبارات وسائل التواصل الاجتماعي» إن كثيراً من أحداث العنف التي اندلعت في العالم أخيراً، لم تكن لتحدث بذات الاتساع والتأثير لولا استخدام ناشطين لقنوات «التواصل الاجتماعي» في «تأجيج حس العداء والتحريض على الأعمال الراديكالية».
إن الذين اقتحموا مبنى «الكابيتول» فعلوا ذلك مدفوعين بعوامل مختلفة، يبدو أن من أهمها طاقة الخوارزميات ونتائج عملها عبر «الإنترنت»، وهم باتوا مقتنعين تماماً بأن الانتخابات الرئاسية «مزوّرة»، وأن «كورونا» مؤامرة ضد ترمب، وأنه «مبعوث إلهي» لنجدتهم ونجدة بلادهم.
نحن في حاجة ماسة لمراجعة أسلوب عمل الخوارزميات.