عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
TT

مشكلة أميركا مع «المواطن» ترمب!

دونالد ترمب لم يكن رئيساً عادياً بكل المعايير، منذ يومه الأول في البيت الأبيض، قبل أربع سنوات، وحتى مغادرته أمس. الصور السوريالية المتلاحقة خلال اليوم لخصت وضعاً غريباً في العاصمة الأميركية، عنوانه الانقسام العميق في الساحة السياسية، وفي المجتمع، الذي سيكون التحدي الأكبر خلال الفترة المقبلة. واشنطن التي لم تفق تماماً من صدمة اقتحام مقر الكونغرس، بدت كأنها مدينة أشباح بلا مواكب شعبية، يجوبها 25 ألفاً من الجنود، خلافاً لمظاهر الاحتفالات التي ترافق عادة تنصيب الرئيس الجديد. حفل التنصيب ذاته جرى في غياب الرئيس المغادر الذي قرر أن يكون أول رئيس منذ نحو 150 عاماً يغيب عن مراسم التسليم والتسلم وتنصيب خلفه.
ترمب غادر البيت الأبيض تاركاً أميركا غارقة في الهموم والانقسامات، تحوم فوقه ظلال كثيفة من الاتهامات والقضايا المحتملة والمساعي لعزله سياسياً، ومنعه من شغل أي منصب أو الترشح مستقبلاً. أصدر في الأيام والساعات الأخيرة لرئاسته عشرات قرارات العفو الرئاسية، لكنه لم يستطع تحقيق رغبته في تحصين نفسه وأسرته بقرار عفو، لأنه لا يمكن العفو عن إدانة لم تحدث بعد. فالرئيس وأسرته تنتظرهم قضايا محتملة أمام المحاكم، لكن سلطات الادعاء، وبالذات في نيويورك، قررت على ما يبدو الانتظار حتى خروجه من البيت الأبيض لكي لا تمنحه فرصة العفو عن نفسه.
ترمب لا يريد أن يكون مثل الرؤساء السابقين الذين يغادرون المشهد ويتركون الساحة، ولو لحين، لخلفهم. فالرجل قبل أن يغادر واشنطن أطلق جملة من التصريحات التي تؤكد أنه عازم على البقاء في دائرة الضوء، وعينه على انتخابات الرئاسة في 2024، وعد أن أمس «ليس وداعاً أخيراً، وسنلتقي قريباً»، وتوعد قائلاً: «سأقاتل دائماً من أجلكم. سأراقب وسأسمع. سنعود بشكل ما». وقال أيضاً عشية مغادرته: «إن حركتنا لا تزال في بدايتها».
وهنا المشكلة والتحدي... فالرجل لا يريد أن يغادر المشهد طائعاً؛ فكيف ستتعامل معه المؤسسة السياسية في واشنطن، وكيف سيتعامل معه الحزب الجمهوري؟
«المواطن» ترمب مثل الرئيس ترمب، مشكلة وامتحان كبير للجمهوريين، وعليهم أن يقرروا كيف سيتعاملون معه الآن ومستقبلاً. الآن فيما يتعلق بالموقف الذي سيختاره الحزب في المحاكمة المتوقعة أمام مجلس الشيوخ... هل ينحاز أغلبية الأعضاء الجمهوريين لإدانة رئيسهم السابق بما يسهل نسبة الثلثين المطلوبة، أم يحبطون الإدانة ويمنحونه «انتصاراً» قد يسبب لهم ولأميركا مشكلة أكبر.
ميتش ماكونيل زعيم الأغلبية الجمهورية السابقة في مجلس الشيوخ هيأ الأرضية لانحياز عدد من أعضاء كتلته للتصويت بإدانة ترمب، عندما صرح هذا الأسبوع بأن الرئيس السابق مسؤول عن تحريض أنصاره من الغوغاء الذين اقتحموا مبنى «الكابيتول»، في أحداث السادس من يناير (كانون الثاني)، التي هزت أميركا وصدمت العالم. لكن رغم كلام ماكونيل فإن عدداً من الجمهوريين لا يبدون راغبين في إدانة ترمب ويتخوفون من خسارة قاعدته الشعبية.
هذا يقودنا إلى المشكلة والتحدي أمام الحزب مستقبلاً، وفي فترة ما بعد رئاسة ترمب. فالحزب الجمهوري فشل كمؤسسة في التحكم في ترمب وكبح جموحه، بل انقاد له في كثير من القرارات والمواقف. صحيح أن شخصية الرجل ومزاجيته وعصبيته كانت عوامل في فشل مؤسسة الحزب في ضبط تصرفاته وقراراته، إلا أن المشكلة أعمق من ذلك. فالحزب الجمهوري على مدى سنوات بدأ يميل ناحية أقصى اليمين بدلاً من أن يقف يمين الوسط، على غرار غالبية الأحزاب اليمينية الأوروبية، أو تماشياً مع تاريخه في فترات سابقة. فمنذ فترة جورج بوش الابن وربما قبلها رأينا تنامي نفوذ اليمينيين المتشددين في الحزب، والميل نحو قواعد اليمين الديني، وهكذا أصبحت قواعد الحزب تضم هؤلاء مع لوبي السلاح والعنصريين والمعادين للنخبة الحاكمة.
ترمب وجد الأرضية مهيأة؛ فتبنى شعارات ومواقف شعبوية لاستقطاب كل هؤلاء، مضيفاً لهم أنصار نظرية المؤامرة، والانعزاليين الذين استهواهم خطابه المعادي للهجرة والمهاجرين، ووعوده بتجفيف «المستنقع» السياسي في واشنطن، وبالانكفاء تحت شعار «أميركا أولاً». الجمهوريون أمام لحظة حاسمة. هل يستعيدون حزبهم نحو يمين أكثر اعتدالاً أم يتركونه يمضي في طريق المتطرفين والغوغائيين؟
الاختبار الأول سيكون في كيفية تعاملهم مع المواطن ترمب. فهناك مجموعة ترى أن محاكمته في مجلس الشيوخ ربما تكون فرصة لإدانته وعزله من العمل السياسي، تقابلها مجموعة أخرى تقاوم الإدانة وتريد استثمار القاعدة الشعبية التي التفت حول الرئيس السابق وتوظيفها في طموحاتها السياسية. ترمب مشكلة في الحالتين؛ فإذا أدين في الكونغرس سيكون «بطلاً» في نظر قاعدته الشعبية التي قد تجنح نحو المزيد من التطرف تحت تأثير نظرية المؤامرة وخطاب «الانتخابات المسروقة». أما إذا تمت تبرئته فإنه قد يزداد قوة وجسارة في تحديه للمؤسسة الحاكمة، وفي التأجيج أملاً في ترشيح نفسه مرة أخرى للرئاسة التي أبى الاعتراف بأنها خسرها، وغادر البيت الأبيض من دون تسليمها لخلفه.
ترمب لو أُتيحت له الفرصة سيفعل كل ما في وسعه ليناكف ويزعزع رئاسة بايدن، ويبقى رقماً صعباً في حزبه، وليحاول في الوقت ذاته مواجهة مشاكل الديون وهيكلة أعماله المالية. سيجمع أموالاً بالتأكيد من المذكرات والكتب والخطابات، لكن تركيزه سيكون دائماً على محاولة استعادة المنصب الذي أقنع نفسه بأنه «سُرق» منه في انتخابات زعم أنها مزوّرة، رغم خسارته لكل القضايا التي رفعها فريقه، ولم يستطع أن يدعمها بالأدلة. ولأنه يحب الأضواء ولا يستطيع الابتعاد عنها، فإنه ربما يدخل مجال الإعلام المرئي بقناة تلفزيونية خاصة، لكنها قد لا تكون قناة تقليدية، بسبب التكلفة العالية للقنوات التلفزيونية، اللهم إلا إذا وجد دعماً من جهة ما. الأرجح أنه قد يعود ببرنامج تلفزيوني في إحدى القنوات المعروفة مثل «فوكس»، ويجني من ذلك أموالاً وأضواء من دون أن يكلف نفسه عبء إنشاء قناة خاصة جديدة. البديل الآخر أن ينشئ قناة تلفزيونية إنترنتية لا تكلفه الكثير، وتمنحه منصة يقول فيها ما يريد، ويستعيض بها عن «تويتر»، إذا بقي محظوراً ومحروماً من التغريد.
بايدن قال في أول خطاب له كرئيس إن هذا يوم أميركا ويوم الأمل وانتصار الديمقراطية، موجهاً رسائل للداخل وللخارج، مشدداً على الوحدة والبناء، ومواجهة الانقسام والعنصرية والغضب والتطرف والإرهاب الداخلي. لكن الطريق طويل وشاق والتحديات كثيرة، لا سيما رأب الصدع الذي خلّفته رئاسة ترمب داخلياً، واستعادة الثقة بالقيادة الأميركية خارجياً.
أميركا تحتاج إلى أن «تكتب فصلاً جديداً»، مثلما عبرت عنه الشاعرة الصغيرة أماندا غورمان في القصيدة التي ألقتها في حفل التنصيب، أمس، لكن المهمة تحتاج إلى جرأة من النخبة السياسية للتخلص من إرث الانقسامات العميقة، مثلما تتطلب مجهوداً خارقاً من بايدن الذي تعهد بأنه سيكون رئيساً لفترة واحدة، مما يحرره من القيود والضغوط التي يواجهها عادة أي رئيس يخطط لدورة ثانية.