رامي الريس
كاتب وصحافي وأستاذ جامعي من لبنان، وباحث ومترجم، يكتب في القضايا العربية والدولية، يحمل شهادة ماجستير في العلوم السياسية من الجامعة الأميركية في بيروت، وله مشاركات في العشرات من المؤتمرات وورش العمل في لبنان والخارج.
TT

بناء مقاربات عربية جديدة ليس ضرباً من الخيال!

لا يمكن لأي مراقب عربي يتابع مجريات الأحداث السياسية في المنطقة العربية وتدهور الأوضاع فيها على أكثر من مستوى، إلا أن يتوسم خيراً من نتائج قمة العلا العربية الخليجية التي رأبت الصدع بين مكونات الأسرة الخليجية ووضعت حداً لخلافات وانقسامات امتدت لأكثر من 3 سنوات تبعثرت خلالها الجهود لمتابعة القضايا والمشكلات والهموم العربية، وما أكثرها في السياسة والاقتصاد والمجتمع والمعرفة والتصحر والبيئة وسواها.
لا شك أن المفهوم التقليدي القديم للعروبة قد سقط، ليس لأن الرابط التاريخي والجغرافي والمنطقي الذي يرتكز عليه هذا المفهوم قد تغير، بل لأن الممارسات التي حصلت على مدى عقود تحت شعاره دجنته وأصابت به مقتلاً في كثير من المنعطفات الأساسية التي نسفت الفكرة من أساسها وعكست غياب الرغبة والإرادة السياسية لتعويمها والعمل بموجبها.
بين المنظمة الأوروبية للفحم والحديد التي انطلقت في منتصف الخمسينات، وبين ما وصل إليه الاتحاد الأوروبي من وحدة في السياسة الخارجية والاقتصاد والنقل وحرية انتقال الأشخاص والبضائع وإلغاء الحدود الجمركية (رغم الخروج البريطاني منها بموجب «بريكست»)؛ ثمة مسافة سياسية وزمنية تُسجل بقوة لنجاح القيادات الأوروبية المتعاقبة في الحفاظ على المشروع وتطويره. إنه المشروع الذي أتاح للقارة القديمة أن تحافظ على القليل من الحضور في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وقد خرجت منها مدمرة ومنهكة عقب مشروعات الجنون النازية والفاشية.
صحيحٌ أن الحرب الباردة بين القطبين الأميركي والسوفياتي قسمت أوروبا والعالم إلى معسكرين متناقضين تماماً، وضعا العالم في حالة عميقة من الاستقطاب والاستقطاب المضاد القابل للانفجار في أي وقت؛ ولكن الصحيح أيضاً أن أوروبا تجاوزت جراحها العميقة بعد حربين عالميتين، وهدأت الجبهة العسكرية الألمانية - الفرنسية، وانتقل ميدان التنافس «والتعاون» إلى مواقع ومجالات أخرى، سرعان ما تحولت إلى نجاحات باهرة في الاقتصاد والتكنولوجيا والصناعة والمعرفة وسواها من القطاعات.
الركون الدائم لمقارنة المثل الأوروبي بالمثل العربي لا ينطلق من اعتبارات نظرية منعزلة عن الواقع، بل ثمة حاجة جدية للارتكاز إلى ذلك المثال لمحاولة بناء تجربة عربية مشابهة، ولو اختلفت الظروف والمرتكزات والمنطلقات، والسعي من خلالها للتفكير في كيفية إنتاج أطر عربية جديدة تحاكي التحديات والتحولات الكبرى التي شهدتها المنطقة العربية طوال سنوات وتأخذ في الاعتبار خلط الأوراق المستجد الذي يعيد ترتيب الأولويات في اتجاهات جديدة مختلفة نوعياً عن المراحل والحقبات السابقة.
من حق القارئ أن يعتبر مجرد الكلام مجدداً عن أطر عربية جامعة بأنه كلام صار خارج الزمان والمكان. ومن حقه أيضاً أن يعتبر أن إعادة رفع شعارات مضى عليها الزمن هو مجرد استحضار للماضي بدل التطلع إلى المستقبل. ومن حقه كذلك أن يشير إلى الإخفاقات والانكسارات العربية المتتالية التي أدت إلى حالة عارمة من اليأس والقنوط وفقدان الثقة بالذات. ما يجعل تولد هذه المشاعر مشروعاً ومبرراً هو أن الأنظمة التسلطية والعسكرية العربية تمادت في استغلال الشعارات الشعبوية العربية وأفرغتها منهجياً من مضمونها ما جعل الشعوب العربية تنفر منها بصورة جذرية وراديكالية تامة.
المشكلة في المشروع العربي الفاشل تماثل المشكلة في المشروع الاشتراكي الذي سقط في الاتحاد السوفياتي، وليس مع الاتحاد السوفياتي. لقد أعاد السوفيات تركيب المشروع الاشتراكي والشيوعي وفق اعتبارات استمرار الحزب الحاكم في السلطة بالتوازي مع القضاء على كل أشكال الحريات الفردية والعامة والإطباق على كل مفاصل المجتمع ومكوناته. وعندما تلاشت الدولة كما تتناثر الأوراق في الهواء، ألقي اللوم على المشروع وليس على الأداء الذي رافقه، وهذا مفهوم بالنسبة للمواطن الذي يبحث أولاً عن الاستقرار ولقمة العيش والحريات.
ولكن قلما تقرأ عن مقارنة المشروع السوفياتي بمشروعات الاشتراكية الاجتماعية التي انتشرت في عدد من دول أوروبا الغربية وحققت نجاحات استثنائية في الرخاء الاجتماعي والثقافي والإنساني عموماً ورفع مستويات المعيشة بما يزاحم الأنظمة الرأسمالية الجشعة التي تتلطى خلف شعارات الحرية لتوفر المجالات لقلة من النافذين والأثرياء للسيطرة على مقدرات المجتمع بلا أدنى تدخل يُذكر من الدولة وأجهزتها.
هذه هي الحالة المطلوب الركون إليها عربياً بالضبط. الخروج من النمطية القديمة في رفع الشعارات البالية التي لا تسمن ولا تغني، الإقلاع عن مصادرة حريات الشعوب تحت مسميات فارغة، فتح قنوات التعاون الاقتصادي العربي الذي من البديهي أن يحقق فوائد اقتصادية وتجارية ومصلحية مباشرة بمعزل عن العناوين البراقة التي لم تعد من مجالات للصرف.
ولكن الأهم من كل ذلك، وفوق كل ذلك، لا مفر من استعادة زمام المبادرة عربياً لوضع حد لتغلغل نفوذ اللاعبين الإقليميين في الساحات العربية المختلفة، وهم الذين يعيثون فيها فساداً ويضعفون مشروعات الدولة المركزية في عدد من البلدان، ويعيدون تركيب موازين القوى وفق مصالحهم وحساباتهم، ويصادرون إرادة الشعوب بغية استلحاقها بمشروعات تناقض موقعهم وانتمائهم العربي.
إذا كانت الاعتبارات النظرية والفكرية لإعادة بناء مقاربات عربية جديدة لم تعد صالحة أو أنها تحتاج لإعادة تركيب وفق مرتكزات جديدة، فإن الاعتبارات الوجودية المرتبطة بالهوية والبقاء تفرض نفسها بقوة على الواقع المأزوم راهناً. إنه الواقع الذي يتطلب تحركاً جدياً قبل فوات الأوان. ربما تكون قمة «العلا» بدايته، وليس نهايته.