د. عبد الغني الكندي
أستاذ مساعد في قسم العلوم السياسية - جامعة الملك سعود
TT

كيف تعظّم حكومة الشرعية اليمنية من مصادر شرعيتها

بعد خمس سنوات من عمر الصراع اليمني، ما زالت حكومة الشرعية اليمنية تعاني من تحديات كبرى وأزمة حقيقية تتعلق بإعادة بناء الدولة، وتعميق الوحدة الوطنية، وتعزيز مصادر الشرعية للحكومة الانتقالية. ولعل من أبرز التحديات التي تواجه الحكومة الشرعية في الوقت الراهن، قدرتها المؤسساتية على إنتاج نخبة سياسية وطنية حقيقية تتميز بمعيار التماسك الوطني عندما يتم يتعلق الأمر بعمليات الإنتاج والتوزيع الوظيفي للخدمات والموارد العامة التي تقدمها للشعب اليمني، وبمعيار الانسجام في الانتماء إلى مرجعية موحدة لمنظومة الثقافة السياسية التي تربط بين أعضائها. وكما يبدو لي فإنَّ هناك قصوراً وظيفياً حقيقياً داخل حكومة الشرعية في تحقيق معيارَي التماسك والانسجام داخل النخبة السياسية اليمنية التي ما زالت حتى اللحظة تعاني من تشرنق حزبي، وانحيازات مناطقية، وانقسام طائفي، ونزاعات قبائلية حول المحاصصة السياسية وتوزيع الموارد العامة للدولة.
وكما هو الحال مع معظم الدول الفاشلة والمنهارة في عالمنا العربي، فإن إنتاج نخبة وطنية تجمعها رابطة الانتماء إلى الأرض، وثقافة الانتساب إلى هوية جماعية موحدة تتجاوز من خلالها كل الهويات الفرعية، والانتماءات العضوية، والمصالح الضيقة، ما زال محدود التأثير على الأرض اليمنية. وهذا الشكل من غياب الإحساس بالانتماء إلى الهوية الوطنية الجامعة عند النخبة السياسية اليمنية يبدو جلياً عند النظر إلى التناقضات التي أفرزتها التغيرات الدائمة في قواعد اللعبة السياسية بين الفاعلين السياسيين اليمنيين، حيث شهدت علاقات النخبة اليمنية تغيرات مستمرة في عملية التحالفات والصراعات السياسية قوامها المصالح الحزبية والاستراتيجيات النفعية التي لا تتقاطع على الإطلاق مع المصالح الوطنية العليا للدولة اليمنية. ودلالات التاريخ في منتصف التسعينات تشير إلى تحالف حزب «المؤتمر» بقيادة صالح مع حزب «الإصلاح» ذي التوجه الإخواني، والحركة الحوثية ضد «الحزب الاشتراكي» في الجنوب بقيادة علي سالم البيض. وانتقل هذا الشكل من التحالفات إلى نقيضه إبان «الربيع العربي» حينما تحالف الحوثي مع «الإصلاح» و«الاشتراكي» ضد حزب «المؤتمر» لإسقاط حكومة صالح، التي انتهت إرهاصاتها بتشكيل حكومة الوفاق الوطني بقيادة الرئيس هادي ورئيس الوزراء باسندوه. بيد أن هذا التحالف البراغماتي لم يستمر طويلاً بين هؤلاء اللاعبين، إذ في عام 2014 تحالف صالح مع الحوثي لإسقاط حكومة الوفاق الوطني وبعض قيادات حزب «الإصلاح». وكانت النتيجة النهائية، لتناقضات مرجعية القيم والمصالح داخل تركيبة النخبة اليمنية، وتقلبات اللعبة السياسية العشوائية وغير المدروسة، أنْ تحولت قواعد اللعبة السياسية من تعددية قطبية للاعبين السياسيين إلى أحادية قطبية بتفرد لاعب وحيد تمكن من الهيمنة بشكل كامل على كل قواعد إدارة اللعبة السياسية. وفي هذا السياق برزت الحركة الحوثية كقطب وحيد ولاعب أحادي يتحكم في شروط اللعبة السياسية وقواعدها، مستحوذة على كل عناصر القوة الشاملة، التي مكّنتها في نهاية الأمر من سحق خصومها وتحويلهم من لاعبين أساسيين إلى ملاعب للسيطرة والنفوذ السياسي والآيديولوجي والعسكري، فتمكنت من اغتيال صالح عام 2017، وتشتيت قوة حزب «الإصلاح»، ومطاردة الاشتراكيين في الجنوب، وبسط سيطرتها على مخلفات هياكل السلطة الأمنية في صنعاء وبعض المناطق الشمالية. وأمام عبثية هذا المشهد السياسي برزت الحركة الانفصالية في الجنوب كفاعل سياسي إضافي ولاعب جديد، وهو الأمر الذي فاقم من تعقيدات الوضع السياسي اليمني.
هذا الشكل من هدر الموارد العامة في الصراعات الحزبية بين النخب السياسية اليمنية، أفضى إلى خلق ما يشبه شكلاً من الإجماع الشعبي بديمومة فساد كل الفاعلين السياسيين اليمنيين، وتصدع معايير التماسك الأخلاقي بين أعضاء النخب السياسية، وهشاشة القيم الوطنية التي تحقق شكلاً من الانسجام الذي ينتج سلوكاً وطنياً جماعياً يتجاوز المصالح الذاتية للأحزاب والجماعات. وهذا الخلل الوظيفي في تركيبة النخبة السياسية هو ما دفع معظم اليمنيين للبحث عن أي فرصة للخلاص من تلك النخب التقليدية، والتحرر من مصالحهم الحزبية الضيقة، وإعادة إنتاج علاقات اجتماعية جديدة لنخبة وطنية حقيقية خارج منظومة هذه النخبة الفاسدة. وهذا التطلع الشعبي للخلاص تؤكده حالات السخط والتذمر العام من الأوضاع السياسية والاقتصادية القائمة، ناهيك بالحقائق الديموغرافية للمجتمع اليمني الذي يشكّل نسبة الشباب فيه أكثر من 70%، معظمهم من مستخدمي الشبكة العنكبوتية، ومشاركون فاعلون في شبكات التواصل الاجتماعي، ومطلعون بشكل واسع على متغيرات وأحداث العالم الخارجي.
وتقدر وكالة المخابرات الأميركية بأن عدد المسجلين في خدمات الانترنت من الشعب اليمني للعام 2016، يصل الى سبعة ملايين مشترك، أي ما نسبته 24% من مجموع السكان. ويشير موقع Media Landscape المتخصص في الاعلام الرقمي بأن تسعين في المائة من الشعب اليمني يمتلكون قدرة الوصول الى خدمات الإنترنت ويتداولون من خلالها أحداث الحرب، وصور القتلى والضحايا والتدمير. وحظي موقع فيسبوك وحده في العام 2015 بمعدلات دخول من اليمن وصلت الى ما يقارب 93% من الشعب اليمني، في حين استخدم موقع الواتسأب 92% من سكان الشعب اليمني.
وكأي مجتمع فتيّ فإن التركيبة الديموغرافية الشابة للمجتمع اليمني وانخراطها في تكنولوجيا الاتصالات الحديثة ستسهم في تأثر الشباب والشابات ببعض التوجهات والمفاهيم الحداثية المرتبطة بالحقوق والحريات المدنية، والرغبة في الاستقلالية الفردية وإحداث بعض التغييرات الاجتماعية والثقافية التي تستجيب لتطلعاتهم وطموحاتهم والتي يمكن ترجمتها بواسطة نخبة جماعية أو قيادة وطنية يتملكها حس الانتماء الوطني المجرد من مصالح التحزبات والإثنيات الضيقة والهويات الفرعية.
بيد أنه بسبب تعقيدات الوضع السياسي في الداخل اليمني، والحظر المفروض على تشكيل أي تجمعات سلمية خارج هيمنة القوى الحوثية، أمسى من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، تصنيع نخبة وطنية حقيقية تعبّر عن تطلعات هؤلاء الشباب، وتسهم في تحررهم من كل شبكات الفساد السياسي القائمة. طبعاً هذا إذا أخذنا بعين الاعتبار مفارقة أن الشطر الشمالي من الدولة اليمنية الذي يشكّل 30% من مساحة إجمالي الدولة اليمنية يتمركز فيها أكثر من 80% من إجمالي الشعب اليمني، والذي يهيمن على بعض أجزائه، وليس كلها، الميليشيات الحوثية. وبالتالي فإن معظم الكثافة السكانية التي تتكدَّس فيها شريحة الشباب اليمني هي في المناطق التي تدار بواسطة الحركة الحوثية، وهو الأمر الذي يعيق التركيبة الشبابية اليمنية من الانفلات من قيود الحوثي والتحرر الجماهيري من سطوته على مقدرات الدولة، وبالتالي إنتاج النخبة المنشودة أو القيادة الوطنية الجادة. إلا أن تعقد هذا الخيار لربما قد يطرح بديلاً آخر وممكناً يسهم في إنتاج نخبة وطنية متماسكة ومنسجمة وغير متلوثة بفساد الداخل وقد تعبّر عن مراد الشباب وتطلعاتهم المشروعة، وفي غالب الأمر ستكون خارج الدولة اليمنية، وتحديداً من أمواج الشتات اليمني الكبير الذي يعيش في الخارج.
وبكل تأكيد فإن ثمة تنوعاً واضحاً في الثقافة السياسية، والتركيبة الطبقية، والوضع الاقتصادي بين الجاليات اليمنية التي تقيم في منطقة الخليج وموجة المهاجرين الأوائل الذين وُلدوا وترعرعوا قديماً في دول غربية كأميركا وبريطانيا التي يعيش فيهما ما يزيد على مائة ألف مهاجر يمني.
وعلى الرغم من أن الجالية اليمنية التي تعيش في منطقة الخليج، وتحديداً في السعودية، ما زال لها تأثير كبير وجليّ في شبكة علاقات النخبة اليمنية، علاوة على أن تحويلاتها المالية تشكل مورداً مهماً في ميزانية الدولة اليمنية، فإن منتسبي الجالية اليمنية المولودة في المجتمعات الغربية كأميركا وبريطانيا ما زال تأثيرها هشاً وسطحياً في العمق اليمني. ويبدو لي أنه من الممكن إنتاج نخبة جديدة مؤثرة متماسكة ومنسجمة من داخل فئة المهاجرين الأوائل في المجتمعات الغربية التي من المرجح أن تسهم في قيادة المرحلة السياسية المقبلة، وتعزز من مصادر شرعية الحكومة الانتقالية لأسباب متعددة؛ أولها أن عدداً لا يستهان به من مواليد الجالية اليمنية في أميركا وبريطانيا والمقدَّرة بما يزيد على مائة ألف يمني ويمنية، يمتلكون المهارات اللغوية المطلوبة في إنتاج خطاب عقلاني ومنفتح لمخاطبة الضمير العالمي وفتح قنوات اتصال شفافة مع المؤسسات الدولية وصناع القرار في الدول الكبرى لعكس الخطاب الظلامي والفاشي للحركة الحوثية وفضح سياساتها اللاعقلانية، لا سيما أن كثيراً من هذه الحقائق مغيّبة عن معظم الفاعلين الدوليين. كما أن عدداً كبيراً من هذه الجالية وُلدت وعاشت خارج منظومة شبكات الفساد النخبوية باليمن، وعبّرت عن نفسها كقوى مثقفة وفاعلة في كل قوى ومؤسسات المجتمع المدني الغربية، كالجامعات والمراكز الثقافية والمؤسسات الحكومية والخاصة والمراكز التجارية، فضلاً عن انضمام البعض منهم إلى عضوية طبقة الأنتجلنسيا الغربية في صورة مهندسين وأطباء وأساتذة جامعات. والأهم من كل ذلك أن بعض الذين وُلدوا وعاشوا في تلك المجتمعات الغربية ما زالوا يعانون في غالب الأحوال من أزمة هوية وطنية نتيجة صعوبة الاندماج الثقافي الكامل في الهياكل والبنى الثقافية لتلك المجتمعات الغربية، وبالتالي يتملكهم الحنين في تركيبة هوية وطنية تستوعب رغباتهم في الاندماج في وطنهم الأم، يُشبعون بواسطتها بعض من إمكانيات الشعور النفسي بالإنجاز الرمزي وتحقيق الذات وإشباع حاجات الكبرياء والأنا الفردية، ولكن وفق شروط ثقافة مدنية أكثر تحضراً وإنسانية، ومبنية على أسس وقواعد اللعبة الديمقراطية الحقيقية. ولربما أزمة الهوية قد تكون محفزاً ضمنياً في دفع البعض منهم إلى الانشغال بهموم الداخل اليمني وبالأوضاع الاقتصادية والسياسية المتردية، والرغبة في المشاركة في استنهاض مقدرات الأمة اليمنية لتشكيل هوية وطنية يمنية متجاوزة للصراعات الإثنية الضيقة تستوعب طموحاتهم وتحاكي في شكلها ومكوناتها تركيبة الهويات الوطنية المحايدة في الصراع الاجتماعي والديني كحال الهويات الوطنية التي عبّرت عنهم في دول المهجر الغربية، ومماثلة لصيغة بنية الدولة المدنية الحديثة التي وُلدوا وترعرعوا فيها.
بيد أن الإشكالية الحقيقية التي تواجه هذا الشتات اليمني الهلامي، أو تشتت المهاجرين اليمنيين عبر الأوطان - والذين يتجاوز عددهم السبعة ملايين، أي ما نسبته 32% من إجمالي سكان اليمن، ولا سيما الجالية اليمنية التي تعيش في المجتمعات الغربية - تكمن في ضعف مقدراتها المؤسسية، وغياب أي منظومة سياسية ومرجعية نهائية ذات خطاب وطني موحد يُنتج فعلاً جماعياً مؤثراً في الداخل اليمني أو على صعيد المجتمع الدولي. غير أنه في حال توحد رأس المال التجاري للجالية اليمنية الكبيرة التي تعيش في الخليج وشرق آسيا مع العقل الثقافي والخطاب العقلاني لبعض المهاجرين اليمنيين المولودين في المجتمعات الغربية، من الممكن أن يشكّل ذلك جسراً ثقافياً لإنتاج نخبة يمنية موحدة عابرة للحدود، ومورداً استراتيجياً مهماً في إنتاج قيادات سياسية تجمعها رابطة الوحدة الوطنية. ولربما قد تتسم تلك النخبة الانتقالية والعابرة للحدود، بالانسجام والتماسك نتيجة لاشتراكهم في أزمة هوية موحدة، يجمعها الحنين إلى الوطن، ووحدة الهدف، والمصير المشترك، وفقدان الأمل المعقود على النخب السياسية القائمة. هذه التوجهات الفكرية المشتركة قد تكون النواة الأولى في تشكيل هوية وطنية جامعة تتجاوز الهويات الفرعية ونماذجها السياسية الضيقة، والتحرر من القوالب الصلبة للقوى الحزبية الفاسدة بالداخل.
وفي حال تعبئة هذا المورد البشري الضخم سياسياً سيكون أمامه ثلاثة سيناريوهات محتملة؛ الأول أن تستثمر الحكومة الشرعية القائمة رأس المال البشري لهذه الجالية اليمنية في المجتمعات الغربية وتفسح المجال لها في تعزيز شرعيتها الدولية، وذلك عبر إعادة تنظيمها في هياكل مؤسسية من داخل تلك المجتمعات الغربية التي تتيح قوانينها حرية التجمع السلمي للأقليات وحرية التعبير عن آرائهم ومعتقداتهم السياسية. وهذه القوة المقترحة والمساندة للحكومة الانتقالية الحالية قد تكون أداة اتصال في غاية الأهمية مع صناع القرار في الدول الكبرى والمؤسسات الدولية وقوى المجتمع المدني لفضح الخطاب اللاعقلاني للحوثي وكشف شبكة علاقاته الفاسدة في الداخل والخارج. أما السيناريو الثاني، فهو نهوض هذا الشتات بشكل مستقل ومكتفٍ ذاتياً، وتأسيس نخبة جديدة خارج منظومة الحكومة الشرعية، تهدد من وجودها وشرعية استمراريتها، وقد يصبح الأمر واقعاً وممكناً في ظل فاعلية وكفاءة شبكات التواصل الاجتماعي في عملية التعبئة السياسية والحشد الجماعي وبلورة وصياغة المطالب الجماهيرية، فضلاً عن الموارد المالية المتاحة لبعض رجال الأعمال والتجار اليمنيين الذين يعيشون في دول الخليج العربي وشرق آسيا الذين لربما قد يشتركون في إنتاج هوية موحدة مع الشتات اليمني في المجتمع الغربي، وبالتالي تشكيل نخبة سياسية يمنية عابرة للحدود. أما السيناريو الأخطر والأكثر مدعاة لإثارة القلق، أن تستغل قوى سياسية أخرى، سواء كانوا لاعبين داخل المنظومة الإقليمية أو خارجها، موارد هذا الشتات اليمني في إنتاج نخبة سياسية متماسكة ومنسجمة في تقديم منافع للقوى المصنّعة لها، وتشكيل قيادات سياسية لامعة، كحال تجنيد الإدارة الأميركية لكرازي في أفغانستان، أو الجلبي في العراق، أو استغلالهم كالبرادعي وغنيم في مصر.
- باحث في قسم العلوم السياسية - جامعة الملك سعود