د. حسن أبو طالب
كاتب مصري، يكتب في «الشرق الأوسط» منذ 2019. يعمل حالياً مستشاراً بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وعضو الهيئة الاستشارية العلمية للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، مُحكم ومستشار أكاديمي في العديد من مراكز البحوث العربية والدولية، وكاتب صحافي في جريدة «الأهرام». عمل سابقاً رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة دار المعارف»، ورئيس تحرير «مجلة أكتوبر» الأسبوعية، ومدير «مركز الأهرام الإقليمي للصحافة»، ورئيس تحرير «التقرير الاستراتيجي العربي» الذي يصدره مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، ونائب رئيس تحرير «الأهرام».
TT

انقلاب على الديمقراطية الأميركية

لا يختلف اثنان على أنَّ اقتحام مؤيدي الرئيس ترمب للكونغرس الأميركي، يُعد تناقضاً صارخاً للتقاليد الأميركية، يتحمَّل الرئيس ترمب جزءاً كبيراً من المسؤولية في هذا الفعل غير المسبوق. إنَّه نوع من التمرد الذي يعكس حالة ارتباك والتباس شديدة تمرُّ بها مفردات الديمقراطية الأميركية، في ظل ما يمكن وصفه «بالترمبية السياسية»، التي تمثل في كثير من مفرداتها آيديولوجيا يمينية ذات طابع غوغائي شعبوي يقدّم الوجه الآخر لما يمكن وصفه بـ«نواقص» الديمقراطية وثغراتها القيمية. الرؤية الكلية تكشف أيضاً أنَّ الذين يُدينون الرئيس ترمب ويتباكون على ما فعله، هم أيضاً مسؤولون عن حالة الاحتقان المجتمعي الذي تعيشه الولايات المتحدة في السنوات الأربع الماضية، وهو امتداد لثغرات كبرى تراكمت في سنوات طويلة سابقة.
لقد كسر الرئيس ترمب قواعد ومعاملات بدت راسخة غير قابلة للاهتزاز: صدامه مع المؤسسات العميقة ووسائل الإعلام الكبرى، وقراراته غير المتوازنة سياسياً ومجتمعياً، واستنهاض الممارسات التمييزية عرقياً وإنسانياً... كلها انقلابات مادية ومعنوية على المنظومة الديمقراطية. لكنه ليس وحده الذي انقلب على الديمقراطية، فهناك مؤسسات رسمية وغير رسمية تصرفت أيضاً ضد القيم الديمقراطية، وعليها أن تعيد النظر في تصرفاتها ومدى علاقتها بمزاعم تحصين الديمقراطية وحمايتها من غوغائية البعض، حسب تعبيرات الرئيس بايدن.
أحداث الكونغرس وتفاعلاتها التالية تعيد تشكيل الكثير من معادلات العملية السياسية، لا سيما تلك الدعوة إلى عزل ترمب أو تقديمه استقالة طوعية لتجنب المساءلة، حسب دعوات رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي، التي بدورها بدأت ترتيبات تطبيق التعديل «25» الخاص بعزل الرئيس أو تخليه عن السلطة. في الوقت ذاته تبدو الضغوط هائلة على نائب الرئيس مايك بنس الذي انحاز لقرار الناخبين الأميركيين، لكي يبادر وأعضاء الإدارة بعزل الرئيس بوصفه فاقد الأهلية السياسية لإدارة شؤون البلاد، على أن يتولى بنس تلقائياً إدارة البلاد بالوكالة. الإشارات الأولى والمحدودة من بنس تؤكد معارضته هذه الدعوة، لما تسببه من أضرار أكبر من أي فوائد يمكن تحقيقها، لا سيما أن عزل الرئيس ليس ممهِّداً كما يظن الديمقراطيون، ولأن المدة الباقية لا تزيد على عدة أيام محدودة.
مطلب عزل الرئيس ترمب ليس محل إجماع جمهوري، وطرحه بالطريقة الانتقامية، والهادفة أساساً للإذلال السياسي للرئيس ترمب شخصياً، يزيد من حالة الاحتقان المجتمعي. مراقبون يتحدثون عن خوف الديمقراطيين من استمرار الرئيس ترمب بعد انتهاء ولايته في تشكيل تهديد للنظام العام، والأكثر دقة أن يشكل تهديداً مباشراً للحزب الديمقراطي نفسه وللرئيس بايدن وإدارته، استناداً إلى شعبيته ووجود كتلة مجتمعية تقترب من نصف البلاد تؤيد مقولاته حول تزوير الانتخابات وسرقتها، وتؤمن بوجود مؤامرة تقودها مؤسسات الدولة العميقة ومعها الإعلام الأميركي بما في ذلك وسائل التواصل الاجتماعي ضد ترمب وإرثه السياسي. أحد مصادر القلق لدى الديمقراطيين يتعلق بالكاريزما التي يتمتع بها ترمب لدى مؤيديه، والذين يمكن أن يشكّلوا أساساً مجتمعياً لتأسيس حزب ثالث يناطح كلا الحزبين العريقين. وإن حدث الأمر بمثل هذا الزخم المفترض، فمن المؤكد أن قواعد العملية السياسية الأميركية سوف تواجه تحدياً كبيراً، لا سيما أن نسبة كبيرة من مؤيدي ترمب يمثلون تياراً يؤمن بالتفوق الأبيض ذي النكهة العنصرية كأساس لعظمة أميركا، والتي عليها أن تعمل بمفردها ولا تراعي الآخرين حتى في الداخل الأميركي نفسه.
الكثير من أفكار وقناعات هذا القطاع من اليمين الأميركي تُعد رداً متطرفاً على الأفكار اليسارية التي ازدهرت في الحزب الديمقراطي في العقد الماضي، والتي يُنظر إليها كإرث للرئيس الأسبق أوباما. الرفض المجتمعي المتبادل يناقض ما يوصف دائماً بأن آليات الديمقراطية تسمح بالتعايش بين الأضداد، وتنظم عملية المنافسة بينهم عبر الانتخابات النزيهة، وأنَّها تجسد الحريات التي لا يمكن انتقاصها من أي طرف كان.
أبرز الممارسات التي تناقض منظومة القيم الديمقراطية التي لطالما تحجج بها البيت الأبيض تجاه بلدان ونظم مختلفة، هي مسألة ضمان حرية الرأي للكل ومن دون قيود. قيام وسائل التواصل الاجتماعي بحذف حسابات الرئيس ترمب بدعوى أنَّها تخالف المعايير المعتمدة، تضرب مقولات حرية الرأي في الصميم، وتبرز انحياز تلك الوسائل للديمقراطيين مهما كان حجم الإنكار من مالكي تلك الوسائل، ومهما كانت تأكيداتهم أن إغلاق حسابات الرئيس لأنَّ تغريداته تدعو إلى العنف، فالرجل رئيس ما زال في السلطة، ووضعه المعنوي والسياسي يفترض أن يمنحه الحق في التواصل مع متابعيه من دون قيود، أما قيام مالكي وسائل التواصل بدور الطرف الوصي على أداء الرئيس السياسي فتلك ضربة للقيم التي يُفترض أن الديمقراطية الأميركية تحميها وتقدسها.
نحن أمام تدخل مباشر يناقض أيضاً كل المعايير التي تدّعي تلك الوسائل أنَّها مجرد منصة للحرية ونشر الأفكار. وجود الرقيب أو الوصي على حرية التعبير في بلدان لا تدّعي الديمقراطية كنظام حكم، يعدّ نتيجة طبيعية. أما أنْ تحدث الرقابة على رئيس أكبر دولة، فهذا تناقض من شأنه أن يُسهم في تأجيج الاحتقان المتصاعد في الداخل الأميركي، ويُكذّب ما يقال إنه قناعات حقيقية عن حرية التعبير عن الرأي من دون تدخل.
انقلاب آخر، وهو الأخطر، أصاب معيار الفصل بين المؤسسات. صحيح أنَّ الرئيس المنتخب بايدن حين سئل عن عزل الرئيس ترمب قال إنَّ تلك مسؤولية الكونغرس. هذه الحكمة التي أبداها بايدن غابت تماماً عن نانسي بيلوسي التي تحدثت مباشرةً لرئيس أركان الجيش الأميركي لمنع الرئيس من اتخاذ قرارات تتعلق بالحرب ومنعه من الشفرات النووية. من الناحية الشكلية يبدو طلب السيدة نانسي ذا علاقة بالأمن القومي الأميركي، ويعبّر عن حرص على عدم التورط في مغامرة عسكرية كبرى تضر بالبلاد. أما من الناحية الموضوعية فالأمر يمثل نقضاً آخر للدستور الأميركي وتقاليد الفصل بين السلطات.
لو أن السيدة نانسي بوصفها رئيس مجلس النواب تحدثت إلى مايك بنس، نائب الرئيس ورئيس مجلس الشيوخ، حول مخاوفها من أن يلجأ الرئيس ترمب قبل نهاية مدته القانونية إلى مغامرة عسكرية بلا مبرر موضوعي، لكان الأمر مقبولاً ودستورياً، أما أن تتدخل لدى موظف حكومي كبير يعمل في مؤسسة الجيش لها قواعدها الصارمة في الانضباط والولاء المهني، ثم تملي عليه تصرفاً معيناً من دون الرجوع إلى قائده الأعلى، فنحن أمام حالة تدخل مباشر من رمز يمثل السلطة التشريعية، أي مجلس النواب، لأحد الموظفين الحكوميين الذين يتبعون مباشرةً السلطة التنفيذية التي يمثلها الرئيس ترمب. ذلك بدوره إخلال بواحد من أهم عناصر الديمقراطية الأميركية، أي الفصل بين السلطات، ويعبر عن دعوة لتمرد كادر حكومي كبير على الرئيس الأعلى. وفي ظل مثل هذه الانقلابات السياسية والمعنوية ينتظر العالم: ماذا سيفعل الرئيس بايدن؟