الولايات المتحدة على أعتاب تغييرات كبيرة في برامج الدكتوراه التي تمنحها جامعاتها، وفي طريقة اختيارها الأبحاث التي تلبي احتياجات المجالات الأكثر إلحاحاً. فمجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية تضخ عدداً مهولاً من رسائل الدكتوراه وباتت في حاجة إلى التقليص، لكن التوسع الكبير في الأبحاث الممولة من الحكومة يمكن أن يمنع مصيراً مشابهاً في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات.
فلطالما ظل الإفراط في منح درجات الدكتوراه مشكلة لسنوات في الولايات المتحدة التي تحتل المرتبة الأولى في أعداد حملة الدكتوراه بين جميع الدول الغنية.
قد لا يكون هذا في حد ذاته بالأمر السيئ؛ لأن وجود أعداد كبيرة من أصحاب التعليم الجيد لأمر حميد في حد ذاته؛ لأن هذا يساعد الباحثين الأميركيين في الحفاظ على الصناعات المعرفية في البلاد ووضعها في طليعة الاقتصاد العالمي. فدرجة الدكتوراه تعزز بشكل كبير من نظام أي جامعة وتوفر مصدراً للعمالة الرخيصة العالية المهارة لكل من البحث والتعليم الجامعي.
لكن المشكلة تبدأ عندما يحصل باحثو الدكتوراه على شهاداتهم ويخرجون إلى العالم. فقد بدأت الوظائف الأكاديمية التي اعتادوا على طلبها في النضوب، وكانت نهاية الطفرة الكبيرة في بناء الجامعات في القرن العشرين بمثابة أول ناقوس خطر لذلك المورد الضخم من حملة الدكتوراه. ولأن العديد من وظائف الأساتذة ثابتة، فليس هناك الكثير من الأماكن المفتوحة للباحثين الشباب إلا إذا واصلت الدولة في بناء المزيد من الجامعات - وهو ما لم يعد متاحاً. يمكنك القيام ببحث سريع عبر محرك «غوغل» عن الاتجاهات في أي مجال أكاديمي - التاريخ والأنثروبولوجيا واللغة الإنجليزية – وستجد أرقاماً مخيفة تُظهر انخفاضاً في الوظائف الشاغرة لأعضاء هيئة التدريس.
سبب آخر لنقص الوظائف هو أن الكليات قد تحولت من الاعتماد على أعضاء هيئة التدريس إلى المحاضرين والمساعدين ذوي الأجور المنخفضة، وقد تفاقم هذا الضغط مع انخفاض معدلات الالتحاق بالجامعة.
من شأن هذا الوضع أن يتسبب في تراجع في الأجور للعديد من الباحثين الجدد، تماماً مثل النوادل الذين يتجولون في هوليوود انتظاراً لوقت الراحة. وهكذا يستمر الحال عاماً تلو آخر من دون تأمين صحي، ويضطرون إلى العيش في شقق رثة، في حين تتلاشى فرص عملهم خارج الأوساط الأكاديمية.
لكن حتى مع تلاشي حلم الحياة كأستاذ جامعي التي يرغب فيها الباحثون، استمرت الدولة في ضخ المزيد من حملة الدكتوراه. وحتى مع تراجع الوظائف، زادت الجامعات من وتيرة برامج الدكتوراه.
وبالطبع، كان ذك كله قبل «كوفيد - 19»، حيث وجه الوباء ضربة قاصمة للتعليم العالي، حيث بقي الطلاب في المنازل وأثار تساؤل البعض عما إذا كانوا سيحصلون على المال مقابل دراستهم.
أحد الحلول الواضحة هو أن الدكتوراه تحتاج إلى التخلي عن الحلم الأكاديمي غير الواقعي والذهاب إلى القطاع الخاص، وهي دورة معقولة حيث تكمن المشكلة في أن المستشارين المهنيين الأساسيين للطلاب هم أيضاً مستشارو أطروحة الدكتوراه، وهم أنفسهم أكاديميون، وبالتالي يميلون إلى معرفة المسار الأكاديمي فقط.
والأهم من ذلك أن العديد من شهادات الدكتوراه ببساطة لا تستحق العناء من منظور القطاع الخاص. فحملة الدكتوراه في التاريخ يمكنهم الالتحاق بقسم شؤون الموظفين بالشركات أو التسويق أو الاستشارات أو إطلاق شركة ناشئة خاصة بهم أو القيام بمليون شيء آخر - ولكن من المشكوك فيه للغاية ما إذا كانوا سيفعلون أفضل بكثير مما لو كانوا قد حصلوا على وظيفة مباشرة بعد التخرج من الكلية أو اكتفوا بدرجة الماجستير. لذا؛ بينما يمكن لطلاب الدكتوراه في علوم الكومبيوتر أو الإحصاء أن يقفزوا على الأرجح في درجات قليلة على سلم الشركة نتيجة لشهاداتهم، يمكن لطلاب الدكتوراه في الهندسة وعلم الأحياء الحصول على وظيفة في مختبر خاص، لكن حاملي الدكتوراه في العلوم الإنسانية والاجتماعية سيبقون عاطلين عن العمل.
هذا الوضع ليس سوى وصفة للخلل المجتمعي؛ فقد قدم العديد من المؤرخين نسخة من الأطروحة القائلة بأن توقعات النخب يمكن أن تؤدي إلى اضطرابات اجتماعية. ففي الآونة الأخيرة، حذر المؤرخ بيتر تورشين من أن الإفراط في إنتاج النخب هو نذير للشقاق في أميركا الحديثة. وهناك دليل على أن تجربة الحصول على الدكتوراه من الجامعة لم تكن أبداً بالتجربة الممتعة كثيراً، وأنها باتت مرهقة بشكل متزايد بسبب التفكير المقلق في الوظائف.
إن وجود حفنة من حملة الدكتوراه في اللغة الإنجليزية الغاضبين والهاويين إلى الأسفل في حد ذاته ليس بالأمر الكافي للإطاحة بمؤسسات المجتمع، لكنهم قد يتسببون في مشكلات وخلافات ضخمة إن أرادوا. فقط تذكر أن هؤلاء أشخاص أذكياء جداً ويجيدون كتابة الأشياء ومُتعلمين بصورة تجعلهم يجيدون طرح أفكارهم المعارضة.. ببساطة هؤلاء هم من يميلون إلى قيادة الثورات.
هناك حلان لمشكلة الفائض في حملة الدكتوراه؛ الأول هو زيادة الطلب على الدكتوراه في مجالات العلوم، والتكنولوجيا، والهندسة، والرياضيات، وهو أمر بالغ السهولة: ما عليك سوى ضخ المزيد من الأموال الحكومية في البحث. هذا ما تحتاج الولايات المتحدة بشدة إلى القيام به على أي حال للحفاظ على ريادتها التكنولوجية ودفع معدلات النمو الاقتصادي. يقترح قانون «الحدود اللانهائية»، وهو مشروع قانون قدمه السيناتور الديمقراطي، تشارلز شومر، في مايو (أيار) بدعم من الحزبين، إنفاق 20 مليار دولار سنوياً على البحث والتطوير. إذا تم تمرير هذا التشريع، فمن المحتمل أن يكون كافياً لتجنب وجود أي دكتوراه فائضة في الهندسة والبيولوجيا ومجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات الأخرى.
لكن بالنسبة إلى طلاب الدكتوراه في العلوم الإنسانية والاجتماعية، لا يوجد حل سريع لهم في الوقت الحالي؛ لأن الحكومة لن تقوم بتخصيص المليارات سنوياً لتعزيز البحث في المجالات غير المتعلقة بالعلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات. لذا؛ فإن ضخ الدكتوراه في هذه المجالات يحتاج ببساطة إلى أن يخفض إلى مستوى يتماشى مع الواقع الاقتصادي الجديد. هذا ما يحدث بالفعل، حيث قام أكثر من 140 برنامجاً من برامج العلوم الإنسانية والاجتماعية بتعليق قبول رسائل الدكتوراه لعام 2021.
سيكون ذلك مؤلماً ومحبطاً لبعض الشباب الذين يحلمون بدراسة تلك المواد لكسب لقمة العيش، لكن الضغط على الجامعات كان يعني أن تلك الأحلام ما هي إلا خيال. وكما هو الحال مع العديد من الأشياء الأخرى، سيتعين على أميركا القيام بعمل جاد لتحقيق أحلامها الأكاديمية على الأرض.
- بالاتفاق مع «بلومبرغ»