سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

حظاً سعيداً مستر بايدن

تكفي مراقبة قوة الكلمات الشاجبة لـ«غزوة الكونغرس» يوم السادس من يناير (كانون الثاني) 2021، لفهم خطورة الحدث الذي سيبقى لوقت طويل علامة فارقة في تاريخ أميركا. فقد وصفها قادة وصحافيون أوروبيون بأنها «وصمة عار» وأعمال «مشينة» ولحظة «خزي» و«صدمة» و«مهزلة» و«تدنيس» للتقاليد.
احتلال الكونغرس الأميركي من قبل غاضبين، وترويع ممثلي الأمة، والعبث بالوثائق الرسمية، وإنزال العلم الوطني الجامع، ورفع علم ترمب بدلاً منه، وتحطيم معدات الصحافيين، والتقاط الصور على مكاتب النواب ومنصاتهم، ووقوع أربعة قتلى فيما سماه شارل ميشال رئيس المجلس الأوروبي «معبد الديمقراطية» وحوله، هو أمر يتجاوز غضب اللحظة، ويهدد الديمقراطيات الغربية، وليس النظام الأميركي وحده.
نشرت جريدة «ليبراسيون» الفرنسية افتتاحية تنادي فيها بـ«اليقظة»، و«الحذر» من أن «الشعبويين موجودون في كل مكان. وهم متأهبون لاستخدام أصغر ثغرة للولوج منها، وإضفاء الشرعية على خطاباتهم الخطيرة. وهذا ما على إيمانويل ماكرون أن يتنبه له، ويعد العدة لكبحه».
بعض الشعبويين المتطرفين الأميركيين هم في أعلى المناصب، حتى بعد مغادرة ترمب. أكثر من 100 عضو جمهوري في الكونغرس كانوا واصلوا حتى صباح الخميس رفض نتيجة الانتخابات بحجة التزوير الشامل؟ 74 مليون ناخب صوّتوا للرئيس المنتهية ولايته. وحركة «كيو أنون» المتطرفة تتصاعد، وتعلي الصوت.
من اندفعوا لاحتلال الكونغرس جاءوا من مختلف الولايات، حاملين راياتهم الثورية، ومعتمرين قبعاتهم، ومتنكرين بملابسهم الغريبة، يدفعهم إيمان عميق بضرورة تحرير بلادهم، من عصابة تسلبهم حريتهم. هؤلاء يتكاثر عددهم، ويقوى إيمانهم. ومع فشل الغزوة الميمونة، لا بد أنهم سيشعرون بمزيد من العصبية والإهانة، وبأن المؤامرة التي تحاك ضد بلادهم تحتاج إلى كل دموعهم التي ذرفوا بعضها أمام الكاميرات، وعزائمهم، واستنفارهم وخططهم. كيف تقنع هؤلاء بأن ليس من قوة سرية تخطف الأطفال، وتريد أن تخطف البلاد؟ من يشرح لهم بأن الرئيس ترمب ليس مرسلاً إلهياً لإنقاذهم؟ بين الاستغلال السياسي، والوهم النفسي، والإحباط الاجتماعي، ووطأة «كورونا» التي بات ضحاياها بمئات الآلاف، يجد هؤلاء مزيداً من الأنصار والداعمين، على وسائل التواصل الاجتماعي، ويتنامى إحساسهم بالقوة.
نوافذ كثيرة غير شبابيك الكونغرس التي حُطمت مساء الخميس، فتحتها الانتخابات الأميركية الأخيرة. ولم يفعل دونالد ترمب بسلوكه المحفّز لهؤلاء المسكونين بحس المؤامرة، سوى التسريع في تأجيج سورتهم، والدفع بهم صوب فائض من الهلوسات المجنونة.
طوال أكثر من قرنين من الزمن، لم يشهد مبنى الكابيتول الشامخ، اعتداءً، وممثلو الشعب قمعاً، أو شللاً لعملهم بالعنف وتحت تهديد السلاح، كما حصل هذه المرة. على الأميركيين أن يعودوا كثيراً إلى الوراء ليعثروا على حدث كبير في هذا المكان الذي يعتبر الرمز الأكبر للديمقراطية الغربية الحديثة. ففي عام 1814 أضرم الإنجليز النار في مبنى الكابيتول يوم غزوا واشنطن، وما كان له أن يسلم لولا أمطار عاصفة شديدة، أرسلتها السماء، هدّأت من روع النيران التي كانت تلتهمه، واحتاج الأمر إلى سنوات طوال لإعادته إلى ألقه. في القرن الحادي والعشرين، الأمر مختلف؛ فالجماعة التي اقتحمت المبنى وعاثت فيه فساداً، تأتيه بتحريض من حامي الدستور، ورئيس البلاد، الذي سلّم في نهاية المطاف بنقل السلطة لخلفه. لكن اللعبة لم تنتهِ؛ إذ إن ترمب نفسه يعتبر أن «انتقال السلطة يمثل نهاية لأعظم فترة أولى في تاريخ الرئاسة، لكنه بداية لمعركتنا من أجل أميركا عظيمة مرة أخرى».
الأبواب لا تزال مفتوحة إذن، على مفاجآت أميركية إضافية، لم يتمكن مخرجو هوليوود، بكل أريحيتهم، وأخيلتهم المجنحة من تصور مثيل لها. حقاً ما يحدث فاق أي تصور. ثمة تناقضات مثيرة للذهول. كيف يمكن لبلد غزا القمر والكواكب وجمع أهل الأرض على شبكة افتراضية بعلومه واكتشافاته، أن تنتعش فيه مجموعات على هذا القدر من الإيمان بالخرافة والوساوس الجماعية الوهمية؟ وما تفسير الهزال الأمني الرهيب في الدفاع عن المبنى الأهم، في أقوى بلد في العالم. أين «إف بي آي»؟ ماذا حصل لأجهزة الرصد والتجسس؟ لم يفاجأ أحد بالمظاهرة. فهي ليست الأولى. والمحتجون زحفوا أمام أعين الشرطة من مختلف ولايات البلاد، للالتقاء في هذا الموعد بالذات الذي تتم فيه المصادقة على رئاسة بايدن. جاءوا بالسيارات والطائرات، والباصات، ملأوا فنادق واشنطن قبل أن يتجمهروا أمام الكونغرس، ويدخلوه آمنين، ولا يجدوا من يتصدى لهم.
أميركا مريضة وأعراضها خطيرة. أمام الرئيس الجديد جو بايدن، مهمات داخلية تنوء بها الجبال؛ أولها الوباء الذي استفحل، وقضى على 370 ألف أميركي. إنها مذبحة، فكل 33 ثانية يموت أميركي، ومع ذلك في بلد مكتشفي اللقاح، ثمة عقبات كثيرة، لا تزال تحول دون الاستفادة منه بسرعة. وعلى بايدن أن يجد عملاً لأربعة ملايين فقدوا وظائفهم بسبب الجائحة. وبالطبع لا بد أن يعيد بناء اقتصاد أصبح متهالكاً، وأن يسعى لبناء اللحمة إلى مجتمع يعاني انقسامات عمودية وأفقية. والشرخ ليس بين الجمهوريين والديمقراطيين، بل إن الحزب الجمهوري في حالة تشظٍ غير مسبوقة، بسبب الاصطفافات مع ترمب وضده. والشقة تتسع بين البيض والملونين، والأغنياء والفقراء، ومن يريدون الانفتاح ومن لا يعبأون بما يحدث خارج أميركا. هذا كله قبل أن يلتفت إلى أي قضية خارجية.
حظاً سعيداً جو بايدن، لا أتمنى لنفسي في الثامنة والسبعين من عمري أن يُلقى على كاهلي هذا القدر الخرافي من الجنون.