مينا العريبي
صحافية عراقية-بريطانية، رئيسة تحرير صحيفة «ذا ناشونال» مقرها أبوظبي. عملت سابقاً مساعدة لرئيس تحرير صحيفة «الشرق الأوسط»، وقبلها كانت مديرة مكتب الصحيفة في واشنطن. اختارها «منتدى الاقتصاد العالمي» ضمن القيادات العالمية الشابة، وتكتب عمود رأي في مجلة «فورين بوليسي».
TT

مئوية الجيش العراقي في ظل انتشار الميليشيات

يحتفل العراق اليوم بمرور مائة عام على تأسيس جيشه الوطني. قرابة مائة عام منذ تأسيس دولة العراق المعاصرة، والتي سبقها الجيش بعامين، والتي رغم كل الصعاب التي واجهتها والخيانات التي تعرضت لها، بقيت قائمة، كان للجيش العراقي دور محوري للتمهيد لبناء الدولة العراقية عام 1921، وعندما قررت الولايات المتحدة حلَّ الجيش العراقي في 2003، كان لذلك القرار الدور الأكبر في انهيار الدولة وزعزعة استقرارها. وما زال العراق يعاني من تبعات ذلك القرار الخاطئ ليومنا هذا، إلا أن المؤسسة العسكرية بدأت تستعيد عافيتها وتلعب دوراً في استعادة السيادة العراقية.
هناك أسباب عدة ومتنوعة، منها عاطفية واستراتيجية، تجعل العراقيين يهتمون بهذا اليوم. الأسباب العاطفية مرتبطة بحب الوطن والشعور بالفخر بتاريخ عريق، رغم الصعاب والحروب التي زج الجيش بها. فكرة الجيش الذي يدافع عن بلده ويقف بوجه العدو الذي يهدده تجذب العراقيين. وكان للجيش مواقف يذكرها الشعب حتى هذا اليوم، فعلى سبيل المثال، في عام 1954 عانت بغداد من فيضان نهر دجلة الذي هدد العاصمة العراقية وسكانها، إلا أن الجيش تدخل وتعاون مع الشعب والجهات المدنية لحماية المدينة وصد الفيضان. كما أن هناك اعتزازا بدور الجيش العراقي في الدفاع عن القضايا العربية، بما فيها فلسطين وحماية دمشق في حرب عام 1973.
وحتى عام 2003، لعب التجنيد الإلزامي دوراً محورياً في ربط العراقيين من مختلف الخلفيات ببعضهم. فكان التجنيد يجمع في وحدة واحدة جنودا من مدن ومحافظات مختلفة، من جنوب العراق إلى شماله. وفرض ذلك على المجندين التعارف على أبناء المحافظات الـ18 للبلاد وجعلهم أقرب إلى بعضهم البعض. كما أن الجيش العراقي عرف بمهنيته العالية وقد تخرج بتفوق بعض من قادته في أرقى الجامعات والأكاديميات العسكرية مثل «ساندهرست» البريطانية.
لكن لا يمكن نكران الدور السلبي لبعض قيادات الجيش الذين زجوا الجيش بالسياسة، والانقلابات العسكرية التي جلبت كثيرا من الأضرار للبلاد. كان انقلاب عام 1958 الذي قام به الجنرال عبد الكريم قاسم ورفاقه على الملكية، مما أدى إلى مقتل الملك فيصل الثاني والعائلة المالكة الهاشمية، انقلابا دمويا هز العراق وأدى إلى تراجع البلد على العديد من الأصعدة. وتلا ذلك انقلابات عسكرية عدة، بعضها فشل وبعضها نجح، وزعزعة الثقة بالجيش وولد الخوف من الخيانات الداخلية. ورغم ذلك، في الوعي العراقي العام، الخطأ صدر من القيادات والساسة، بدلا من لوم المؤسسة العسكرية كمؤسسة.
عندما تولى صدام حسين رئاسة العراق، حرص على السيطرة على الجيش، خوفا من انقلاب يطيح به. كما أن الحرب العراقية -الإيرانية من جهة ساهمت بتقوية الجيش الذي كان يعد رابع أقوى جيش بالعالم ولكن الحرب أيضا أتعبت الجيش وعناصره. واستطاع العراق أن يقاوم ويحمي حدود البلد خلال السنوات الثماني من الحرب مع إيران، لكن غزو الكويت عام 1990 والحرب التي تلت الغزو كسرا الجيش العراقي. وبعد أن قام تحالف بقيادة الولايات المتحدة ومشاركة 38 دولة بتحرير الكويت، شهد الجيش العراقي فرار الآلاف من منتسبيه، رافضين ما قام به صدام حسين من غزو لدولة عربية جارة.
وبعد سقوط نظام صدام حسين في أبريل (نيسان) 2003، صدر قرار السلطة الانتقالية الثاني، تحت وصاية الحاكم المدني الأميركي بول بريمر، بحل الجيش العراقي في 23 مايو (أيار) من العام ذاته. وهناك شبه إجماع على أن هذا القرار هو الذي خلق الفراغ الأمني الذي ملأته المجموعات الإرهابية والميليشيات. كما أن هذا القرار ساهم بإضعاف الدولة العراقية التي ما زالت تعاني لليوم من الخروقات الأمنية وتجاوز القانون. لذا لا غرابة بأن يقتنع الشعب العراقي بأن الجيش كان حاميا لهيبة الدولة والقانون.
ولا شك أن هناك من يخشى من تبعات جيش قوي يستخدم كأداة سيطرة داخلية في البلاد ويجب مواصلة الجهود لبناء الثقة. وكان للجيش العراقي دور مهم في هزيمة «داعش» وخاصة الفرقة الذهبية التي كانت تحت إمرة عبد الوهاب الساعدي والتي حررت الموصل من بطش الجماعة الإرهابية. وبهذا النصر، استعاد الجيش بعضا من موقعه التقليدي كحام للدولة والشعب العراقي. وبينما يسعى الرئيس برهم صالح ورئيس الوزراء مصطفى الكاظمي إلى إعادة الهيبة للدولة العراقية، فيجب عليهما تحصين الجيش العراقي أولا وإعطاء القوات المسلحة حقها في الدولة. فأي مفهوم للدولة الحديثة يتطلب أن تكون سلطة استخدام السلاح محصورة بيد الدولة وبيد المؤسسة العسكرية. ولكن قيادات الميليشيات تسعى بدورها إلى فرض سيطرتها على البلاد وتسعى لإضعاف الجيش.
يأتي عيد الجيش في العراق هذا العام بعد 3 أيام من الذكرى الأولى لمقتل قائد «فيلق القدس» التابع للحرس الثوري قاسم سليماني ورفيقه القائد الفعلي للحشد الشعبي أبو مهدي المهندس بضربة جوية أميركية. كل من سليماني والمهندس عمل على إضعاف الجيش العراقي، خوفاً من خروجه كعامل جامع للشعب العراقي ورافض للتدخلات والإملاءات الخارجية. فأكثر ما يخيف إيران والمسلحين الخارجين عن القانون هو نهوض الجيش العراقي، ليس فقط بسبب قوته بل بسبب تمسك الشعب العراقي به.
مع الاحتفال بمئوية تأسيس الجيش، يجب رفع الأصوات المطالبة بحفظ مكانته في العراق ودعمه ليكون الحامي الأول للبلاد. فبناء على تاريخه العريق، يمكن بناء مستقبل قوي لعراق ذي سيادة ولحمة داخلية متينة.