نوح سميث
كاتب في «بلومبيرغ»
TT

أميركا وكبح الثراء المجحف

يبدو أنَّ الولايات المتحدة قد اعترفت أخيراً بالمشكلة التي يمثلها عدم المساواة. وكانت التأكيدات أنَّ الموجة العالية التي من شأنها رفع كل القوارب دفعة واحدة، قد أثبتت فراغ مضمونها إثر سلسلة من فترات الركود المتتالية التي خلفت كثيراً منهم عالقين في الوحل. ويدرك خبراء الاقتصاد راهناً أنَّ السماح بقدر أكبر من عدم المساواة لا يؤدي في غالب الأمر إلى تعزيز النمو. كما أن القضية الأخلاقية لعدم المساواة - فكرة أنَّ الأثرياء يتلقون التعويضات المنصفة عن خلق فوائض هائلة من القيمة الاقتصادية - قد انهارت بدرجة كبيرة. وحتى بعض الجمهوريين باتوا يتحدثون عن المشكلة نفسها في الفترة الأخيرة.
غير أنَّ الأسئلة الصعبة حول أسباب ارتفاع معدلات عدم المساواة، وماذا يمكن أن نفعل حيال ذلك، تبقى بلا إجابات شافية إلى حد كبير. وتميل الأصوات العالية بشأن هذه القضية إلى التأكيد على الجانب العلوي من التوزيع - بمعنى الثروات الهائلة التي يملكها أشخاص من شاكلة جيف بيزوس (أمازون) أو مارك زوكربيرغ (فيسبوك) أو إيلون موسك (سبيس إكس). وحتى قبل الارتفاع الأخير في تقييمات الأسهم، كانت هناك فئة صغيرة من المواطنين الأميركيين تتحكم فعلياً في حصة كبرى من ثروات البلاد بصورة ملحوظة للجميع.
في المعتاد، يدعو كبار أنصار مكافحة عدم المساواة إلى فرض الضرائب الجديدة ذات الشرائح العالية كوسيلة للحد من ثراء الأثرياء.
لكن، وفي حين أن عدم المساواة في ثروات أصحاب الأموال الطائلة قد ارتفعت بصورة كبيرة للغاية، فإن هناك شكلاً آخر أكثر خفاء من أشكال عدم المساواة، ذلك الذي يحظى باهتمام أقل بكثير. ففي ثمانينات القرن الماضي، تباعدت الطبقة المتوسطة بصورة ملحوظة، حيث ابتعدت الطبقة المتوسطة العليا عن الطبقة المتوسطة الدنيا.
يمكن للمرء ملاحظة ذلك من خلال النظر إلى مؤشر «جيني» في الولايات المتحدة. ومؤشر «جيني» عبارة عن مقياس تقليدي لعدم المساواة لا يتأثر بشدة بما يجري في نهايات توزيع الثروات. الأمر الذي يجعله مقياساً جيداً إلى درجة معقولة للوقوف على عدم المساواة بين الطبقتين المتوسطة العليا والدنيا. كما أنه يقيس أيضاً مقدار الدخل، وهو المقياس الأكثر صلة بعادات الاستهلاك اليومية ومستويات المعيشة لدى أغلب الناس من مقاييس الثروة الأخرى. ولقد ارتفع مؤشر «جيني» كثيراً خلال ثمانينات القرن الماضي، ولكن بحلول منتصف تسعينات القرن العشرين، نجده قد استقر عند المستوى الأعلى الجديد.
وتساعد حقيقة مفادها أن اتساع رقعة عدم المساواة في الطبقة المتوسطة قد وقع منذ عقود في الماضي، واكتمل اتساع الرقعة نفسها إلى حد كبير بحلول منتصف التسعينات، في تفسير سبب عدم خضوعها لكثير من المناقشة خلال الأيام الراهنة. بيد أنها أصبحت من التغييرات التي لا يمكن أن تنعكس من تلقاء نفسها على الإطلاق. فلقد صارت سمة دائمة من سمات اقتصاد الولايات المتحدة، وهو الأمر الذي صرنا نعتبره من الأمور المسلم بها. وربما يكون لها تأثير مدمر على المدى البعيد على المجتمع والسياسة في الولايات المتحدة.
يشير ريتشارد ريفز في كتابه المعنون «خازنو الأحلام» والصادر في عام 2017، إلى أن الطبقة المتوسطة العليا من المجتمع الأميركي كانت تستحوذ على أفضل الفرص المتاحة تعليمياً، ومهنياً، وسكنياً، من الطبقة المتوسطة الدنيا، الأمر الذي أثار استياء أبناء تلك الطبقة الدنيا.
وفي واقع الأمر، من شأن هذا الفصل بين الطبقات أن يوجه صدمة قوية إلى التصور الأميركي الذاتي على اعتباره مجتمعاً من أبناء الطبقة الوسطى في المقام الأول. وهو أمر يشبه تمييز كارل ماركس بين البروليتاريا والبرجوازية الصغيرة التي نشأت في الولايات المتحدة، ما يثير صراعاً اجتماعياً مماثلاً لما تنبأ به كارل ماركس بنجاح واضح في أوروبا.
والتساؤل الكبير، بطبيعة الحال، هو لماذا ظهر عدم المساواة بين الطبقة المتوسطة في ثمانينات القرن الماضي. كان التعليم من بين الاحتمالات المساهمة في ذلك. ويقدر مشروع هاملتون، وهو جزء من معهد بروكينغز للأبحاث، أن أقساط الأجور من الشهادة الجامعية ومن الدرجة العلمية المتقدمة قد ارتفعت بصورة كبيرة بين عامي 1979 و1994، من أقل من نسبة 40 في المائة إلى نحو 200 في المائة، ثم شهد منحناها قدراً من الاستقامة بعد ذلك - الأمر الذي يحاكي سلوك مؤشر «جيني» سالف الذكر. لذلك، من المحتمل أن يكون ظهور أجهزة الحواسيب وتكنولوجيا المعلومات مفيداً للأشخاص المتعلمين بصورة أكبر بكثير من أولئك الذين لم يحصلوا على الشهادات الجامعية.
والتفسير الثاني ذو الصلة بالمسألة هو التحول الصناعي في البلاد، إذ تظهر الأبحاث الاقتصادية أن الوظائف الروتينية التي تتطلب المهارات المتوسطة قد تلاشت تقريباً من المدن الأميركية الكبرى، الأمر الذي يعني أنه من الصعوبة للغاية حالياً الانتقال إلى مدينة نيويورك أو لوس أنجليس من أجل الحصول على وظيفة جيدة ككاتب في شركة أو عامل في مصنع. وربما يرجع ذلك إلى ظهور مجموعات المعرفة الصناعية التي تطرد الصناعات القديمة التي عفا عليها الزمن إلى خارج المدن. وربما يرتبط الأمر أيضاً بمدى الانحدار العام في التصنيع التحويلي بالنسبة إلى الخدمات على اعتبارها المحرك الرئيسي لنمو الوظائف في البلاد، وبنقل الأعمال الروتينية الأخرى إلى الخارج.
ونأتي إلى السبب الثالث المحتمل وهو تدهور نقابات القطاع الخاص، ذلك الأمر الذي تسارعت وتيرته بالفعل خلال حقبة ثمانينات القرن الماضي.
يمكن للنقابات العمالية الضعيفة أو غير الموجودة أن تؤدي إلى تفاقم التغييرات الجارية من التحولات الصناعية الكبيرة والتغيرات التكنولوجية من خلال منع العمال في المطاعم، والمتاجر، والخدمات المحلية الأخرى من إجبار الشركات على التأكد من أن وظائفهم تحمل قدراً من الجودة، كمثل وظائف المصانع التي حلت محلها سواء بسواء.
ومن ثم، ما دام أن الولايات المتحدة الأميركية تركز اهتمامها على ثروات الأغنياء من أمثال بيزوس، وزوكربيرغ، وموسك، فمن الأفضل ألا نتغافل عن هذا الشكل الآخر من أشكال عدم المساواة في المجتمع الأميركي. لقد ترك عقد ثمانينات القرن العشرين للولايات المتحدة إرثاً اجتماعياً لا يبعث على الارتياح ذلك الذي لم نتعامل معه على الإطلاق. وإن كنا نرغب فعلاً في استعادة الحالة المثلى للطبقة المتوسطة في البلاد، فسوف نحتاج في خاتمة المطاف إلى أن نفعل شيئاً حقيقياً حيال ذلك.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»