روس دوتات
TT

عندما يتعذر عليك الوثوق بالعلم

لدى النظر إلى الكثير من القرارات المحورية التي جرى اتخاذها العام الماضي، نجد أن تلك النسخة الصائبة التي لا غبار عليها من فكرة الثقة بالعلم لم تحقق الكثير. وفي الحالات التي انطوت فيها هذه الفكرة على تداعيات كبرى، غالباً ما بدا أن هذا الشعار انطوى على معانٍ مشكوك في نجاعتها: توقير بيروقراطية علمية في وقت أزمة كان ينبغي منح الأولوية للأعراف البيروقراطية، ومحاولة من جانب مؤسسات شبه علمية لاستغلال مصداقية العلم من أجل خدمة أجندات سياسية، وتخلي مسؤولين منتخبين عن مسؤولياتهم عن إصدار القرارات التي تتسم في جوهرها بطابع سياسي.
وتحمل رحلة لقاحات فيروس «كورونا» أمثلة واضحة على هذه المشكلات جميعها. في الواقع، مسألة وجود اللقاحات في حد ذاتها تعد نموذجاً للعلم في أنقى صوره - تحدٍ جرت مواجهته، ومشكلة جرى حلُّها بالاعتماد على جميع المعرفة التي جرى اكتسابها في العصر الحديث.
إلا أنه كلما ابتعدت عن عمل المعامل، تتضاءل الصبغة العلمية للقضايا الأساسية على نحو واضح وتزداد تعقيداً. على سبيل المثال، يعكس الجدول الزمني الذي على أساسه أتيحت اللقاحات، محاولة لتحقيق توازن بين قواعد العلم البيروقراطية وأولوية السلامة والتأكد من المعرفة، مع إلحاحية محاولة الوصول إلى شيء يوقف مرضاً يحصد أرواح الآلاف من الأميركيين يومياً. وتشارك الكثير من العوامل العلمية هنا، لكن معها أيضاً شتى أنواع العوامل غير العلمية المتغيرة: افتراضات أخلاقية حول أي أنواع اختبارات اللقاحات سنعتمد عليها، وافتراضات قانونية حول من ينبغي السماح له بإجراء تجارب حول علاجات لم يتم التحقق من نجاعتها، وافتراضات سياسية حول حجم القفزات البيروقراطية الواجب اتخاذها لإقناع الأميركيين بأن اللقاح آمن. وكلما اقتربت من خط النهاية، يزداد العنصر البيروقراطي والسياسي وضوحاً.
على سبيل المثال، وافقت الولايات المتحدة على أول لقاح بها بعد بريطانيا، لكن قبل الاتحاد الأوروبي؛ وذلك ليس لأن العلم يقول شيئاً مختلفاً داخل واشنطن العاصمة عما يقوله في لندن أو برلين، وإنما كان التوقيت في جوهره سياسياً - يعكس اختيارات مختلفة من جانب كيانات حاكمة مختلفة بخصوص إلى أي مدى ينبغي لها زلزلة العمليات الطبيعية لديها، وحسابات مختلفة بخصوص أعداد الأرواح التي ستسقط بسبب التأخير في مواجهة حجم المصداقية المفقودة حال حدوث أي خطأ.
بعد ذلك، هناك المسألة الملحة حالياً بخصوص من يحصل على اللقاح أولاً، والتي ناقشتها مراكز السيطرة على الأمراض والوقائية منها على نحو يزعزع أسس فكرة الثقة في العلم. الشهر الماضي، أصدرت اللجنة الاستشارية حول ممارسات التطعيم وثيقة عمل تعتبر نموذجاً مميزاً للجهود شبه العلمية.
في إطار الوثيقة، جرى تقييم تساؤلات علمية وطبية مشروعة (من يحصل على اللقاح أولاً)، وأخرى ذات طابع لوجيستي واجتماعي (أي نمط من التوزيع أيسر في توزيع اللقاح)، وتساؤلات أخلاقية حول من يستحق الحصول على اللقاح، على نحو اتسم بصرامة زائفة مثل شخص مرتبك يحاول شق طريقه عبر مقابلة عمل صعبة. وبعد ذلك، سعت اللجنة لتبرير النتيجة التي خلصت إليها بخصوص أنه ينبغي توزيع اللقاح على العمال الأساسيين قبل كبار السن - لأن كبار السن أكثر احتمالاً أن يكونوا من الفئات الميسورة وبيض البشرة.
إلا أنه مثلما أوضح ماثيو يغليسياس، فإن هذه التوصية تعد مثالاً جلياً حول كيفية أن نمطاً معيناً من التفكير الأخلاقي التقدمي يتجاهل الاحتياجات الحقيقية للأقليات العنصرية؛ لأنه إذا قررت تطعيم الأفراد في سن العمل قبل تطعيم كبار السن، فإنه سينتهي بك الحال فعلياً إلى عدم تطعيم أكثر فئات الأقليات عرضة للخطر، كبار السن من الأميركيين ذوي الأصول الأفريقية، وبالتالي ربما يموت المزيد من أبناء الأقليات من أجل تحقيق توازن عنصري في مجمل معدلات توزيع اللقاح.
بيد أنه حتى لو لم تخلف هذه التوصية مثل هذا الأثر السلبي، وحتى لو افترضنا أن جميع العناصر متساوية وأنت عليك أن تقرر، فحسب الاختيار ما بين مزيد من الوفيات في صفوف أقلية ما ومزيد من الوفيات في صفوف البيض في خطتين مختلفتين لتوزيع اللقاح، يبقى هذا نمطاً من المسائل لا تملك اللجنة الاستشارية لممارسات التطعيم التابعة لمراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها، أي نمط خاص من الكفاءة يخول لها البت فيه.
لو أن السياسة «أ» تؤدي إلى معدلات وفاة متباينة عرقياً، لكن السياسة «ب» تتطلب تمييزاً عرقياً واضحاً، فإن الاختيار إذن بين الاثنين أخلاقي وسياسي، وليس طبياً أو علمياً - تماماً مثلما الحال مع تساؤلات أخرى مهمة من عينة «من هو الشخص الذي يعتبر عاملاً أساسياً؟»، أو «هل ينبغي لنا التركيز أكثر على إبطاء وتيرة تفشي الجائحة أم تقليل معدلات الوفاة؟»، أو حتى «هل ينبغي توزيع اللقاح على الرجال أولاً قبل النساء بالنظر إلى أن الرجال أكثر احتمالاً لأن يموتوا بسبب الوباء؟».
خلاصة القول، أن هذه التساؤلات تنتمي إلى نمط التساؤلات الذي يتعيَّن على قادتنا التصدي للإجابة عنها من دون الانزواء خلف شعار «نحن نتبع العلم فحسب» من أجل حماية أنفسهم.
* خدمة «نيويورك تايمز»