أنتون ياغر
خدمة «نيويورك تايمز»
TT

أوروبا تتراجع... وهذا جيد!

استمع إلى المقالة

من بين الكتّاب الأوروبيين المعاصرين، لا يُعرف الروائي ميشال ويلبيك بتفاؤله؛ فعلى مدار ثلاثة عقود من إنتاجه الأدبي، كان أحد المواضيع المتكررة حتمية التدهور البشري، بدءاً من تدني مستوى المواد الإباحية على الإنترنت، وصولاً إلى انحدار الحضارة الأوروبية نفسها. وفي عام 2014 كتب: «فرنسا تخلّت عن التقدّم. لقد أصبحنا جميعاً، ليس فقط سائحين في بلادنا، بل أصبحنا مشاركين طوعيين في ثقافة السياحة».

اليوم، تبدو تعليقات ويلبيك بمثابة نبوءة مظلمة تحققت على أرض الواقع؛ فقد تضاءل النمو الاقتصادي في القارة الأوروبية، بعد أن كان ضعيفاً أصلاً، حتى أصبح شبه معدوم. وحتى ألمانيا، عملاق الصناعة، تعاني من الانحسار والتراجع هي الأخرى. وتلاشى الزخم الاقتصادي، ليحل محله تبعات مؤلمة: التكنولوجيا تأتي من الولايات المتحدة، والمعادن الحيوية من الصين. أضف إلى ذلك، أن تحوّل القارة إلى ملعب للسياح، واقتصاداتها إلى خدمات موجهة للزوار، لم يعد مجرد افتراض سوداوي.

ومن المهم ألا نُسيء فهم هذا التراجع؛ فالشكوى من فشل الاتحاد الأوروبي في إنشاء ما يشبه «وادي السيليكون» الأميركي، أو مقارنة الناتج المحلي الإجمالي مع دول يفوق عدد سكانها المليار، لا تُعد أدلة قاطعة على الانحدار. ومع ذلك، يبقى من الصعب إنكار أن أوروبا أصبحت «مُهمّشة»، حسب وصف الفيلسوف الألماني هانز جورج غادامير.

وقد أظهرت مفاوضات إنهاء الحرب في أوكرانيا أن دور أوروبا العالمي تراجع إلى مستوى ثانوي. وفي نظر الرئيس الأميركي دونالد ترمب، فإن أوروبا لا تعدو كونها قارة «متعفنة»، ومهددة بـ«الاندثار الحضاري».

وجاء اعتراف محوري بذلك العام الماضي على لسان الرئيس السابق للبنك المركزي الأوروبي، ماريو دراغي، الذي يُنسب له الفضل في إنقاذ اليورو بعد أزمة 2008. ومع ذلك، نجد أن كثيراً من الحلول المقترحة اليوم قد تُفاقم المشكلة، بدلاً من حلها؛ فاليمين المتطرف يطرح الحل المعتاد: عزل أوروبا عرقياً. أما تيار الوسط، فيقترح تجديداً مبهماً عبر التسلح والتكنولوجيا. في حين أن اليسار إما يهاجم مبالغة أوروبا في السعي إلى بسط النفوذ، وإما يرحّب بانسحابها. الحقيقة أن ما نحتاج إليه صياغة «سياسة للتعامل مع الانحدار»، كما سمّاها المؤرخ إريك هوبسباوم، والمقصود رؤية تدمج بين النظر إلى الداخل والخارج في آن.

على الصعيد الداخلي، يتطلب الأمر التخلي عن الهوس بالتقشف، الذي سيطر على صنّاع القرار الأوروبيين منذ التسعينات. وليس من العجيب أن المؤرخ الاقتصادي آدم توز وصف تقنيي الاتحاد الأوروبي بأنهم «طالبان الليبرالية الجديدة»، بسبب تمسكهم العنيد بمبادئ السوق في زمن تجاوز هذه المبادئ.

على الصعيد السياسي، سيتطلب الأمر مركزية واعية وتعزيزاً للسيادة، الأمر الذي يُشكل تغييراً جذرياً عن الأسلوب الحالي؛ فالتشرذم لطالما عطّل إقرار سياسات موحدة على مستوى القارة. في الواقع، توحيد الجهود بين الدول أمر ضروري، بشرط أن يكون ذلك ضمن إطار من المحاسبة الديمقراطية، التي لطالما غابت عن مؤسسات الاتحاد الأوروبي. والمؤكد أن نجاح أي مشروع يرمي لنهضة أوروبا من جديد، مرهون بدعم شعبي حقيقي.

أما على الصعيد الخارجي، فلا بد من مراجعة شاملة لأولويات السياسة الخارجية. خلال العقد الماضي، تبين أن حلم أوروبا بالحصول على استقلالية عسكرية أو مالية عن الولايات المتحدة ليس سوى وهم. وبدلاً من ذلك، ازداد اعتماد القارة العجوز على واشنطن. إلا أن هذا الانجراف سيُسرّع الانحدار، بدلاً من وقفه؛ فشراء الأسلحة والطاقة من واشنطن لن يعيد الصناعات الأوروبية إلى الصدارة. وإذا ما كانت أوروبا ترغب حقاً في إعادة ابتكار نفسها، فإنها بحاجة إلى أفكار غير تقليدية، وأهمها أن تفكر في تكامل «حيوي» مع الصين. والمقصود بـ«حيوي» هنا وجهان: من ناحية، هذا التكامل ضروري لمكافحة التغيُّرات المناخية ـ معركة تقودها الصين اليوم - ومن ناحية أخرى، يجب ألا يكون هذا التعاون خاضعاً لبكين أو متجاهلاً لسجلها بمجالي التجارة وحقوق العمال. ويعني ذلك أنه يمكن فرض ضوابط على التصدير مع الاستمرار في التعاون.

الحقيقة أنه على أوروبا أن تتعلّم من بريطانيا، المثال الأبرز للتراجع في القرن العشرين. بعد الحرب العالمية الثانية وسقوط الإمبراطورية البريطانية، واجهت لندن خيارين: إما أن تصبح تابعاً لأميركا وتلحق اقتصادها وسياساتها الخارجية بها، وإما أن تسلك طريق «السويد الكبرى» - بالحفاظ على صناعتها، ورعايتها الاجتماعية، واستقلالها الدبلوماسي. في نهاية الأمر، اختارت بريطانيا المسار الأول، وضحّت باستقلالها من أجل «العلاقة الخاصة» التي تربطها بواشنطن.

من جهتها، أوروبا ليست مضطرة لأن تصبح نسخة موسعة من بريطانيا. وبعد أن خرجت من مقعد القيادة على صعيد التاريخ، يمكنها التخلي عن أوهام العظمة. على صعيد الجغرافيا السياسية ومجابهة التغير المناخي، يبقى بإمكانها تحقيق أهدافها من دون أن تكون اللاعب الأول. وسيتطلب ذلك خفض سقف التوقعات: الهدف يجب أن يكون «الاستقرار في منتصف جدول الترتيب»، حسب تعبير جماهير كرة القدم في إنجلترا، وليس تصدر البطولة.

بطبيعة الحال، سيكون من الصعب على النخبة الأوروبية تقبل هذا الواقع. وقد يفضل البعض التهويل والحديث عن نهاية العالم على الاعتراف بحقائق الوضع القائم، ومنهم ميشال ويلبيك نفسه، الذي رسم في روايته «الخريطة والأرض» المنشورة عام 2010، مشهداً مظلماً لأوروبا، حيث تلتهم البرية المصانع الأوروبية. وفي مشهد مماثل، وصف جوزيب بوريل، نائب رئيس المفوضية الأوروبية سابقاً، أوروبا بأنها «حديقة» محاطة بـ«غابة» عدائية.

ورغم اختلافاتهما، يتفق اليمين والوسط بأوروبا في بعض النقاط الأساسية. وليس من الضروري أن تتحول أوروبا إلى أرض قاحلة أو إلى مجتمع مغلق، وإنما عندما تعود إلى حجمها الطبيعي، قد تكتشف القارة أن مكاناً متواضعاً في ضواحي النظام العالمي الجديد قد يكون كافياً تماماً لها.

*خدمة «نيويورك تايمز»