سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

العربية مشكلة سياسية

استمع إلى المقالة

يقرأ المواطن البنغلاديشي المقيم في أستراليا، إسماعيل أرمان، القرآن، بلغته الأم وبالعربية أيضاً، لكنه بمرور الوقت شعر بأن عدم فهمه للعربية يؤثر على إيمانه، وبعد أن ذهب لأداء فريضة الحج أدرك أن ثمة ما ينقص. يروي على قناته في «يوتيوب» التي لها آلاف المتابعين، أنه قرر تعلم الفصحى ليفهم المعاني ويستعيد روحانيته المفقودة، ولمّا لم يجد من يتحدث معه، لجأ إلى «تشات جي بي تي» يبادله الحوار دقائق قليلة كل يوم، وبعد ثلاثة أشهر فقط بات قادراً على الفهم والمحادثة، وهو مستمر في تقوية مهاراته.

لا يدرّس أرمان متابعيه العربية، لكنه يرشدهم إلى الطريقة التي تعلّم بها بواسطة الذكاء الاصطناعي، الذي أصبح فرصة لكل مسلم.

قريباً، لن يكون أحد بحاجة إلى لغة أجنبية للتواصل التجاري أو المعرفي، لأن الترجمة الآلية الفورية تقوم بالمهمة، لكن أرمان وأكثر من مليار ونصف مسلم في العالم سيوجد بينهم الملايين ممن يحلمون بفهم كتابهم الديني بلغته العربية، ويثابرون على تعلمها.

ميزة استثنائية ليست للغات الأخرى، ولا تخضع لتحولات ظرفية. اليابانيون مثلاً، لا يتحدثون أي لغة أجنبية، من المطار يستقبلونك بلغة الإشارة، وفي الفندق الترجمة الآلية تفي بالغرض، حتى في استعلامات «إكسبو أوساكا» هذا العام، الحدث العالمي الأضخم الذي تجند له الدول مترجميها، لم يجهد اليابانيون أنفسهم في النطق بغير لغتهم طالما أن ثمة آلة تقوم بالمهمة. وإذا كنت تظنها استثناءً، فالصينيون سيحكمون العالم، وها هم يتفوقون حتى على أميركا، ولا يجد مواطنهم فخراً في أن يرطن الإنجليزية، بل أن يتقن لغته الوطنية ويتفنن بها. وهم ربما محقون، فالعصر الجديد، يفتح الآفاق بين اللغات والثقافات. فأنت تسأل تطبيقك الذكي باللغة التي تريد، فيأتيك بالإجابة من لغات عدة، ويقدمها لك بلغة السؤال، بلمحة طرف. هكذا يصبح تعلمك للأجنبية، فضولاً يساعد على تمرين العقل، وفهم الذهنيات، وتسهيل التواصل. أما العلم فمسالكه مشرعة بلا حواجز لغوية.

وفي اليوم العالمي للغة العربية، نتذكر كل سنة خسائرنا، واللكمات الأليمة التي نسددها للغتنا. فالأمية في ارتفاع بسبب مآسي الحروب الممتدة وأطفالها المشردين. والشعور العميق بالخور والانكسار، يجعل شبابنا يميلون إلى التبرؤ من لغتهم، ويفضلون الألسن المعوجّة، والجمل الهجينة الغامضة، على لغة صافية عريقة، مما يزيد الفجوة بين العامية والفصحى، بدل أن تتقاربا. النتيجة عزوف عن الكتابة بالعربية، مع أن العصر الرقمي تشيد مداميكه على بيانات الأمم، التي تحولت عندنا إلى نتف وتشوهات. ومع ذلك ينمو المحتوى العربي بسرعة قياسية، لا بفضل عبقريتنا، بل بأفضال أجدادنا الذين أصبحت كتاباتهم زاداً لتدريب النماذج اللغوية، بعد أن سهّل التصوير الرقمي، إدخال النصوص وبرمجتها.

أهدرنا وقتاً طويلاً، لندرك أن لغتنا الاشتقاقية نعمة ليست لغيرنا، وبعد أن تعثرت بحجة أن بها من الكلمات المتشابهات ما يصعّب فهمها، ها قد أصبح التعامل مع الجذر ومشتقاته من المسهلات. إذ يكفي فهم الجذر، للاستدلال على باقي متفرعاته بدقة تفوق اللغات التي تعتمد على التركيب اللفظي العشوائي.

عندما ترى المنصات الذكية تسارع إلى تطويع العربية وتطوير استخدامها، تدرك أهميتها التي نجهلها. هذه ليست جمعيات خيرية، ولا منظمات تدافع عن المساواة وحقوق الإنسان في استخدام التكنولوجيا، بل شركات تجارية، تستميت في سبيل الربح، ولو أعدمت نصف سكان الكوكب. وكل ما يعنيها هو النجاح وكسب الجيوب والقلوب.

العربية الخامسة عالمياً من حيث عدد المتحدثين، وثمة إحصاءات تظهر أن الناطقين بها لغةً أولى قد يكون عددهم وصل إلى نصف مليار، فضلاً عن الذين يفهمونها ويقرأونها وليست لغتهم الأولى. فهي تنتعش في منطقة واحدة مترابطة جغرافياً، وفي 22 دولة، عملياً، ليس فيها تعدد لغوي بالمعنى الحقيقي، وإن أحب البعض ادعاء غير ذلك. في الإحصاءات العالمية، كل عربي يفترض أنه يتحدث العربية في بيته. وبلداننا ليست كأميركا التي تتواصل فيها العائلات في منازلها بنحو 400 لغة، وفي الصين 130، وروسيا مائة على الأقل.

نحن عرب، ومع ذلك العربية مضطهدة، وتخضع لتعنيف وصدمات، غالبيتها متأتية من أبنائها. المشكلة لا تكنولوجية، ولا نحوية. وكل كلام عن صعوبة العربية هرطقة. لأن اللغة تسهل بقدر ما تستخدمها وتحبها. والصينية التي هي للبعض لغز، ستصبح بعد قليل، مشتهى الراغبين في التقرب من أصدقائهم وشركائهم الصينيين. عندها لن يسخر أحد من أنها تكتب بالطول أو بالعرض، وسيرسمونها على الجدران، ويعلقونها كالتعاويذ في اللوحات.

العربية حلّها يأتي بقرار سياسي وتربوي، تماماً كما في الصين واليابان. فالطالب لا يترك المدرسة إلا وقد قرأ كبار الأدباء، وتعرف إلى أمهات كتب التراث، وعرف تاريخه، واعتدّ بأصوله، وشعر بالفخر بانتمائه. أما تخريج أجيال تستصغر نفسها، وتحتقر تاريخها، وتتبرأ من لغتها، فتلك كارثة لن يصلحها أي نظام ذكي مهما بلغت عبقريته.