عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

النقد الهدام ومصل «كورونا»

لم يمر يوم على بدء تطعيم كبار السن في بريطانيا بمصل مقاومة «كوفيد - 19»، إلا وبدأت جوقات المنتقدين الإنشاد. الأمر معتاد في المجتمعات الديمقراطية المفتوحة، خاصة بنسخة القرن الـ 21 من المقولة الديكارتية من عصر التنوير «أنا أنتقد، إذن أنا موجود».
ولم يتضح بعد ما إذا كان المصل الجديد الذي أنتجته «فايزر» الألمانية في بلجيكا، (أو بقية الاثني عشر مصلاً الذي قرب استخدامها)، تقي من انتقال العدوى بين الأشخاص، أي هل تعمل مثل درع تقي الجسم من دخول فيروس كورونا إليه؟...
أم يقتصر دورها على عمل «بروفة» العدوى للجسم، مثل المناورات بالذخيرة الحية، استعداداً للقاء العدو؟
في هذه الحالة يستعد جهاز المناعة في جسم الإنسان بالأسلحة التي لديه، وهي الأجسام المضادة في حال دخول الفيروس إلى الجهاز التنفسي والأوردة الدموية، فيحاصر الخلايا التي اخترقها الفيروس ولا تتطور إلى مرض «كوفيد - 19».
ولأن الأمصال الجديدة عجلت معامل الأدوية بإنتاجها بسبب الضغوط التي تتعرض لها المجتمعات، فسيستغرق الأمر سنوات للإجابة عن السؤال عن قدرة المصل على منع نقل العدوى، لأن المصل الذي يحقق النتيجتين سيكون حجر الفلاسفة لعلماء طب القرن الـ21. وهذا سبب تعجب العقلاء من إنشاد جوقة نقد معروفة تظهر على أي مسرح سياسي، أو اجتماعي أو ثقافي، أو أدبي، لتنتقد المجتمع وكل ما هو مألوف فيه من مؤسسات وظواهر. فكل شيء لديهم، من البيئة إلى الاستثمارات والبنوك والصناعة إلى نظام التعليم ومؤسسة الأسرة والزواج، هو سبب البلاء. هذه المؤسسات يتهمونها بإتلاف البيئة وقهر النساء وترويج الاستعمار والعنصرية واستغلال العالم الثالث. وبالطبع لن يفلت الطب والصحة من حملتهم التي تهدف أساساً إلى تقويض الأنظمة الرأسمالية، خاصة الديمقراطية ومؤسساتها من قضاء، وتعليم، ومؤسسات المجتمع كالبرلمان، وحرية التعبير، والأسرة؛ بينما لا يقدمون بديلاً لما يريدون هدمه، فآيديولوجيتهم فوضوية لا إصلاحية للبناء والتطوير.
في اليوم الأول للتطعيم، خرجت علينا جوقة «اليسار التقدمي» تتهم بريطانيا وأميركا والبلدان المتقدمة، بأنهم سيطعمون مواطنيهم على حساب بلدان العالم الثالث والبلدان الفقيرة التي سيكون متوسط نسبة التطعيم فيها 10 في المائة، أي إنسان واحد من كل عشرة فقط. ولم يقدم أحدهم مصدر الإحصائيات وكيف توصلوا إلى هذا الرقم؟
قائمة منظمة الصحة العالمية تضم 172 بلداً في البرنامج العالمي للحصول على الأمصال المضادة لـ«كوفيد - 19» واختصارها غافي (GAVI) وقد وافقت لجنة البرنامج (لجنة غافي)، فيما يعرف ببرنامج التعاون للتطعيم، على اعتماد قائمة 92 بلداً تتولى فيها البلدان المتقدمة صناعياً أو (الغنية) مساعدتها لدفع ثمن الأمصال وتوفير المعدات الطبية اللازمة.
قائمة الـ92 تضم ثلاث مجموعات؛ بلدان الدخل المنخفض مثل أفغانستان وإريتريا وإثيوبيا واليمن؛ وبلدان الدخل ما بين المتوسط والمنخفض، كالجزائر وكمبوديا ومصر وتونس وزيمبابوي، ومجموعة ثالثة كجزر ودوقيات داخل أراضي بلدان أخرى.
تفاصيل «غافي» منشورة على موقع منظمة الصحة العالمية منذ ثلاثة أشهر، وفيها التزامات البلدان المتقدمة، واحتياجات الفقيرة، لكن جوقة النقد الفوضوية لا تقرأ، ولا تريد أن تبحث في المعلومات بدقة.
فهي مثلاً لا تنتقد الصين، التي هي ليست فقط مصدر الفيروس، بل أيضاً مسؤولة عن تضليل العالم لقرابة ثلاثة أشهر بدلاً من نشر المعلومات بصراحة. ثلاثة أشهر كانت ستمنح البلدان الأخرى فرص الاستعداد بالمعامل وإجراء الاختبارات وإغلاق المطارات، خاصة للقادمين من الصين، بجانب أن الصين لديها المصل ولها استثمارات واسعة وأنشطة وتعاقدات إنشائية متسعة في أفريقيا (وثلثا بلدان القائمتين فيها) وبلدان العالم الثالث. ومع ذلك لا ينتقدون الصين ويصب الانتقاد على بريطانيا وأميركا وأوروبا.
الوجه الآخر من العملة نفسها أن هناك بلداناً في قائمة منظمة الصحة العالمية الـ92 لديها المعامل والعلماء والأطباء، لكنها لم تكلف نفسها عناء بدء البحث عن إنتاج المصل. وإذا كانت الإمكانيات المادية هي العائق، فكان يمكنها طلب الدعم المادي من المنظمة العالمية، أو من تجمعات إقليمية هي أعضاء فيها.
المعامل التي تجري الأبحاث على أمصال أو تقوم بإنتاج المصل أو الاثنين حالياً توجد في بلدان كبريطانيا، وكندا، وألمانيا، وإيطاليا، وأستراليا، والصين، وإسرائيل، وروسيا، والهند، وتايوان، وكوبا. وهناك عدة معامل وعدة أمصال في البلد الواحد.
هناك بلدان، يعرفها القارئ، في أفريقيا وآسيا ومنطقة الشرق الأوسط أكثر ثراءً، ومستوى المعيشة ودخل الفرد فيها أعلى من بلد كتايوان، ناهيك عن كوبا، لكن البحث العلمي وإنتاج المصل لا يبدو أنه من أولوياتها. وأولوية أي بلد تحددها المؤسسة السياسية - ولا أقصد الحكومة وحدها، وإنما المؤسسة التي تدفع بالبلاد في طريق دون غيره، مثل البرلمان، ومؤسسات الصحافة بكل أشكالها، والمفكرين، والأكاديميين الذين يقنعون الأمة بترتيب قائمة الأولويات. وعلى سبيل المثال لا الحصر لا يوجد بين البلدان الأعضاء في تجمعات كمنظمة الوحدة الأفريقية، أو الجامعة العربية، بلدان تجري البحث في معاملها لإنتاج نسختها الخاصة من المصل، بينما نرى في المجموعتين أمثلة لبلدان أولوياتُ الرأي العام فيها هي معاداة الغرب ومعاداة البحث العلمي والتقدم، بل وترتفع فيها أصوات تروّج لنظرية المؤامرة وتتهم «الإمبريالية العالمية»، (وتقصد العالم المتقدم والأنظمة الديمقراطية) باستغلال الوباء العالمي للتحكم في مصائر الشعوب. منشورات نشطاء هذه البلدان واتهاماتهم على منصات التواصل الاجتماعي للغرب، تنتقيها جوقة الانتقاد اليساري الفوضوي (ومعظمهم من ميسوري الحال في أوروبا وأميركا الشمالية) كدليل لانتقاد البلدان الرأسمالية.
لم نسمع مثلاً اقتراحات من هذه الجوقة، بأن تساهم الصين بتوفير المصل لقرابة 30 بلداً (في مجموعة غافي) للصين حضور كبير فيها بالاستثمارات والمشاريع الإنشائية. ولم نسمع اقتراحات بأن تتعاون تجمعات كمنظمة الوحدة الأفريقية، أو الجامعة العربية، أو منظمة جنوب آسيا للتعاون الإقليمي (وجميعها لديها أنساق تعاون في المجالات العلمية والاقتصادية والفنية وغيرها) لكي تخرج بميزانية مؤقتة تدفعها كل مجموعة لدول أعضاء لديها معامل البحث الأكاديمي الملحق بالمستشفيات للبحث عن أمصال لتطعيم كل شعوب المجموعة. فهناك معامل بحث أكاديمي قادرة في بلدان كاتحاد جنوب أفريقيا، وباكستان، على سبيل المثال لا الحصر، خاصة أن العديد من البلدان الأعضاء في هذه المنظمات الإقليمية تنفق ببذخ (بنسب من الدخل القومي تفوق مثيلاتها في بلدان كألمانيا واليابان) على مجالات كبروباغندا وشبكات تلفزيون عالمية وشراء أسلحة وبوارج، تعتبرها أولويات قبل مكافحة فيروس «كورونا».