فؤاد مطر
أحد كتّاب الرأي والتحليل السياسي في «الشرق الأوسط» ومجلة «المجلة» منذ العام 1990 وقبلها عمل صحافياً وكاتباً في «النهار» اللبنانية و«الأهرام». نشر مجلة «التضامن» في لندن وله 34 مؤلفاً حول مصر والسودان والعراق والسعودية من بينها عملان موسوعيان توثيقيان هما «لبنان اللعبة واللاعبون والمتلاعبون» و«موسوعة حرب الخليج». وثَّق سيرته الذاتية في كتاب «هذا نصيبي من الدنيا». وكتب السيرة الذاتية للرئيس صدَّام حسين والدكتور جورج حبش.
TT

مساءلة النفس علاجاً للمعاندة

الآن بات لا بد من وقفة مساءلة للنفس من جانب رئيس الحكومة الإثيوبية آبي أحمد وذلك بعدما قطع ثلاثة أرباع المسافة من المواجهة التي خاضها ضد الخارجين على سلطانه في منطقة «تيغراي» التي هو منها، باسطاً شرعية لم تكتمل على المنطقة التي تتطلع «الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي» إلى صيغة قريبة الشبه من الذي انتهى إليه شمال العراق حُكْماً ذاتياً للأكراد.
والقول إنه بعد العمليات العسكرية التي شنها الجيش الإثيوبي وتسبب المواجهة في لجوء بضعة ألوف من سكان المنطقة إلى البلدات السودانية المجاورة، بات لا بد من وقفة مساءلة للنفس، وذلك لأن الإخضاع حتى إذا اكتمل، وهو على نحو ما قاله رئيس المنطقة المنشقة جبريمايكل: «لا يدرك آبي أحمد مَن نحن. إننا شعب له مبادئه ومستعد للموت دفاعاً عن حقنا في إدارة منطقتنا»، لن يكتمل بعملية عسكرية أو أكثر. وهذه الأمثولة السودانية حاضرة لكي يتأمل فيها آبي أحمد حامل جائزة نوبل للسلام، حيث إن أزمة الجنوب لم تُحسم عسكرياً وبقيت في حالة اشتعال ثلث قرن وتعاقَب على معالجتها عسكرياً أربعة عهود كان أحدها عهداً مدنياً فيما الثلاثة كانت عهود الجنرالات إبراهيم عبود، وجعفر نميري، وعمر البشير. ثم انتهى الحسم اعترافاً بانفصال الجنوب عن الكيان المترامي الأطراف وقيام «دولة جنوب السودان» وحتى الحركات الخارجة عن سلطة الدولة لم ترمِ السلاح واستمرت تشكّل حالة استنزاف مالي وعسكري للدولة، إلا بعدما قام العهد الجديد بجناحيْه العسكري والمدني واعتمد أسلوباً في معالجة حالة التمرد والانفصال العالقة من خلال مساءلة النفس واعتماد الحكمة والحنكة والمرونة في أعلى درجاتها والأخذ بمبدأ أن امتلاك السلطة مهم لكن الأهم هو عدم استعمالها بمنأى عن التبصر واعتماد المنطق ومراعاة ظروف جميع أطراف أزمة تنشأ، وكانت اجتماعات جوبا لتصفية نقاط الخلاف، فاستعيض عن السلاح بالحوار، فالانصهار في الدولة خاتمة المطاف. وبعد ذلك إلغاء الأحكام الصادرة ضد كثيرين، فإعطاء كل طيف سبق أن تمرد وخاض مواجهة مع الدولة حقه واحترام مكانته. ثم يتبين أن صيغة مساءلة النفس على أمل إعادة النظر هي علاج للأزمات مهما اشتدّت حدّتها.
وهذا ما يأمل المتابع مثل حالنا للأزمة المصرية - الإثيوبية، أخْذ الرئيس الإثيوبي بهذه الصيغة، أي بما معناه لا يستمر على اعتبار «سد النهضة» مسألة ذات أولوية لدولة إثيوبيا ما دام نهر النيل ينبع بنسبة ثمانين في المائة من أرضها وهذا يعطيها الحق في أن تستفيد بالنسبة نفسها منه ويُترك الباقي لكل من السودان ومصر، وأن تجعل من «سد النهضة» مصدر ثراء مالي وكهربائي وزراعي وتنتقل إثيوبيا نتيجة ذلك إلى دولة ذات شأن كبير في محيطها الأفريقي. أما أن يتأذى السودان ويتسبب انخفاض منسوب حصة مصر التي هي دولة المصب بكارثة بيئية وزراعية على المدى البعيد فهذا شأنهما، وتلك نظرة غير حكيمة للأمور خصوصاً أن مصر الآن باتت مائة مليون وفي الطريق إلى المزيد. وهذا يعني أن ما جرى الاتفاق في شأنه قبل نصف قرن عندما كانت مصر خُمس ما هي عليه الآن، لا يمكن الأخذ به.
في زمن الرئيس حسني مبارك بدأ الحديث عما يمكن أن يتسبب فيه إنشاء «سد النهضة» الذي كان قد تم التحضير لإنشائه. وكانت هنالك ملاحظات لم تصل إلى درجة التحذيرات ما دام بناء السد لم يبدأ بعد. وفي زمن الرئيس محمد مرسي تزايدت الخشية من السد الذي قطع الإثيوبيون مرحلة متقدمة في إنشائه، فأطلق عبارة تنبيه مما قد يحدث وهي: «أنا كرئيس جمهورية أؤكد أن كل الخيارات مطروحة على الطاولة. إن مصر هي هبة النيل والنيل هبة مصر». وردّت الخارجية الإثيوبية على كلامه هذا بالقول: «إن إثيوبيا لا ترعبها الحرب النفسية وهي لن تعلِّق لثانية واحدة بناء السد».
ثم يبدأ عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي الذي يرى المسألة في غاية الخطورة، ويعلن يوم الخميس 24 أكتوبر (تشرين الأول) 2019 أمام رئيس الحكومة الإثيوبية آبي أحمد، خلال لقائهما في مدينة سوتشي الروسية على هامش القمة الأفريقية الروسية: «إن إقامة السد الإثيوبي يجب أن تتم في إطار متوازن بين مصالح دول المنبع والمصب ويجب ألاَّ يكون مصدراً لأي مشكلات أو تناحر»، ثم يختم الرئيس السيسي كلامه بعبارة: «إن مصر بقدْر تفهمها للمصالح التنموية لدولة إثيوبيا إلاَّ أنها في الوقت نفسه تتمسك بحقوقها التاريخية في مياه النيل...».
بقي الحذر على حاله بين مصر السيسي وإثيوبيا آبي أحمد رغم الود الذي ساد اللقاء إضافةً إلى سعيٍ من جانب الرئيس بوتين لتضييق مساحة التباعد بين رئيسيْن يتطلع الرئيس بوتين إلى كسْب نقلة نوعية من العلاقة معهما وبحيث يصبح لروسيا حضور في القارة الأفريقية كذلك الحضور الذي لها في سوريا، فضلاً عن موطئ القدم المستجد في السودان من خلال قاعدة بحرية على شواطئ بورسودان قابلة للتطوير بحيث تصبح مثل تلك القاعدة في طرطوس. وهذا الاهتمام من جانب الرئيس بوتين حدث على خلفية اهتمام شخصي من جانب الرئيس دونالد ترمب بالأزمة الفاترة بأطرافها الثلاثة: مصر والسودان وإثيوبيا، منذ استقباله المتميز في البيت الأبيض للرئيس السيسي يوم 3 أبريل (نيسان) 2017، وهو اجتماع أسَّس في جزئية منه للاهتمام اللافت من جانب ترمب بالأزمة المتعلقة «سد النهضة» بدليل أنه استضاف يوم الأربعاء 6 نوفمبر (تشرين الثاني) 2019 في البيت الأبيض وزراء خارجية دول أزمة «سد النهضة»، مصر والسودان وإثيوبيا، وهي بادرة استثنائية.
وما كان مأمولاً حدوثه بعد هذه الإشارة من جانب الرئيس ترمب هو أن تطوي الدول الثلاث الصفحة الأكثر تعقيداً من الخلاف والبدء بصفحة محاطة باهتمام رئيس الدولة الأكثر تأثيراً في العالم. لكن الذي حدث أن مصر كانت متجاوبة والسودان متفهماً بينما إثيوبيا على موقفها، وفي تصور رئيس حكومتها أن المرونة ستأخذ من بريق الزعامة ذات التأثير له أفريقياً بعد أن يبدأ ملء السد ومن دون أن يستوقفه أن مثل هذا التصلب في الموقف يتناقض مع جوهر جائزة «نوبل» للسلام التي مُنحت له، فضلاً عن أنه ما دام كان رجل دولة يحبّذ التسوية السلمية العادلة مع إريتريا فلماذا لا يكون على النسيج نفسه في موضوع «سد النهضة» ومستوعباً دوافع ما جرى في إقليم «تيغراي» النهج نفسه الذي أثمر دوراً محسوباً له في إنجاز اتفاق رموز القوى السودانية المدنية والعسكرية التي تحالفت لإسقاط نظام البشير وتنازعت عند التشاور في صياغة هيكلية النظام الجديد؟
خلاصة القول: إنه لا علاج لأزمة «سد النهضة» من دون مساءلة الرئيس الإثيوبي للنفس: لماذا لم يتم توظيف الفرصة الذهبية التي جاءت من الرئيس الأميركي وتسبب إصرار صاحب السد بتعليق بعض المساعدات لإثيوبيا؟ فهو قد يبتهج عندما يتبلغ الشروع في بدء ملء السد وعلى وقْع الاعتراض المصري - السوداني. لكن هل ساءل النفس المبتهجة: ما الذي يمكن حدوثه؟ وهل كثير على شعوب المنطقة العيش بالتراضي وفي منأى عن مواجهات كان يمكن إنقاذ ما من الواجب إنقاذه في حال تحوَّل الاعتراض إلى استحقاق المواجهة... التي لا قدَّر الله يمكن أن تصبغ مياه النيل بالدم؟