بعد أن أصبح في حكم المؤكد تنصيب إدارة بايدن في 20 يناير (كانون الثاني) 2021، حان الوقت للنظر في أفضل السبل - اعتباراً من الآن وحتى منتصف العام المقبل - التي تسمح للبلدان العربية الانخراط البنّاء مع الإدارة الأميركية المرتقبة.
في مقال سابق عرضت وجهة نظر تقضي بأن الشرق الأوسط لن يشكل أولوية متقدمة بالنسبة لإدارة بايدن، لكن لا يعني ذلك أنه يمكن لها تجاهل المنطقة. هذا في الوقت الذي يتخوف كثير من العرب من السياسات التي من المتوقع أن تنتهجها إدارة بايدن في المنطقة، خاصة فيما يتعلق بإيران وقضايا حقوق الإنسان، التي أوضح مستشارو بايدن أنهما ستكونان على رأس الأولويات الإقليمية للإدارة الجديدة. فعلى الرغم من أن الشرق الأوسط يفقد أهميته النسبية للولايات المتحدة، فإن العلاقات مع الدول العربية أكثر أهمية من أن تضحي بها واشنطن، سواء كان ذلك من أجل إيران أو حتى في سبيل المثل والمبادئ التي تتأسس عليها سياستها الخارجية؛ الأمر الذي سيتعين عليها صياغة توازن بين كل من مصالحها والمبادئ التي تحكم سياستها الخارجية ومصالح حلفائها الإقليميين. وفي هذا السياق، سيكون على الدول العربية أن تساهم في تحقيق ذلك التوازن، لكن على النحو الذي يضمن مصالحها الوطنية.
فالدول العربية لا تملك ترف الانتظار إلى أن تستقر الإدارة الجديدة بحلول صيف عام 2021، بل يتعين عليها تحديد الأسس والقواعد اللازمة للانخراط مع الإدارة الأميركية الجديدة، وهو الأمر الذي لن يتسنى إلا بأخذ زمام المبادرة وإظهار قدرتها على المساهمة في إيجاد حلول ولو لبعض الصراعات التي ساهمت في زعزعة الاستقرار في المنطقة، وهو أمر سترحب به الولايات المتحدة ضماناً لمصالحها. فالمنطقة مكبلة بالصراعات والنزاعات التي أعاقت التقدم السياسي والاقتصادي والاجتماعي في غالبية البلدان العربية. ولا يعني هذا أن ذلك الإخفاق هو نتاج لهذه الصراعات والنزاعات فقط، بل يجب التسليم بأن العوامل الداخلية في البلدان العربية هي التي تتحمل الوزر الأكبر لهذا الوضع. ولكن في ضوء التفاعل القوي بين السياقين الداخلي والخارجي في المنطقة، فإن أي تحرك إيجابي لحل الصراعات والنزاعات من شأنه أن يؤثر بشكل إيجابي على تطور الأوضاع الداخلية في معظم البلدان العربية.
فلا يزال النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي مستمراً، ولا تزال الأوضاع في كل من سوريا وليبيا واليمن مستعرة، ولا يزال النزاع حول نهر النيل بين مصر والسودان وإثيوبيا محتدماً، في حين ينهار لبنان، ولا تزال السياسات الإسرائيلية والإيرانية والتركية في شرق المتوسط والخليج تثير قلقاً بالغاً لدى بعض الدول العربية وغيرها.
أمام هذا الوضع المعقد، فإن الحكمة تقتضى أن تتجنب الدول العربية التحرك مع إدارة بايدن على كل هذه الصعد في آن واحد، خاصة أن هناك بالفعل جهوداً تبذل بشأن ليبيا والعراق واليمن والنزاع على مياه النيل، ومن ثم فمن الأفضل السماح لهذه الجهود أن تستكمل مسيرتها.
ولكن هناك قضيتين يمكن الارتكاز عليهما لتشكيل نقطة انطلاق للانخراط البناء مع الإدارة الجديدة، وهما: النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي، والأزمة السورية.
إن إيجاد حل سياسي للمأساة السورية ليس فقط يصبّ في مصلحة الدول العربية، وإنما هو النقطة التي يستطيع العرب من خلالها تأكيد دورهم المفيد والبنّاء في تحقيق الاستقرار في المنطقة. فعلى الرغم من أن سوريا لم تكن في وقت من الأوقات من بين أولويات الولايات المتحدة في المنطقة، فإن عدم استقرارها يمثل مصدر قلق مستمر لما يمثل تهديداً لأمن إسرائيل، خاصة في ظل انتشار النفوذ الإيراني.
أما بالنسبة للعرب، فإن سوريا هي المكان الذي وصل فيه التدخل التركي والإيراني إلى أقصى مدى من الخطورة على سيادة دولة عربية. وكلما استغرق التوصل إلى تسوية سياسية وقتاً أطول أصبحت أنقرة وطهران أكثر رسوخاً في سوريا؛ الأمر الذي سيؤدي إلى فتح شهيتهما على المزيد من التدخل في المنطقة العربية؛ الأمر الذي سيؤثر بدورة سلباً على أمن واستقرار العديد من البلدان العربية. ومع ذلك فلا يوجد لديّ شك أن هناك مصلحة أكيدة في تحويل العلاقة بين الدول العربية وكل من إيران وتركيا من وضعها الحالي إلى النحو الذي يخدم مصالح كل الأطراف؛ الأمر الذي يخدم استقرار المنطقة على الأمد البعيد.
و من هذا المنطلق، يتعين على العرب أن يتقدموا بمبادرة للتسوية السياسية في سوريا. وقد أوجزت بعض الأفكار في هذا الشأن في مقالات نشرت في هذه الصحيفة في ديسمبر (كانون الأول) ثم في يونيو (حزيران) الماضيين تتلخص في اقتراح صفقة شاملة تقضي بإلزام الحكومة السورية بالتنفيذ السريع للقرار 2254 مقابل عودة سوريا إلى الجامعة العربية والتعجيل بعملية إعادة البناء من خلال ترتيب دولي مستند إلى نهج قائم على الحوافز التدريجية: الرفع التدريجي للعقوبات، والتطبيع التدريجي للعلاقات الخارجية لسوريا، والصرف التدريجي لأموال إعادة الإعمار، مقابل اتخاذ دمشق خطوات لبناء الثقة، والأهم من ذلك الإصلاحات السياسية والاقتصادية اللازمة لخلق بيئة آمنة ومستقرة لإجراء انتخابات تحت إشراف الأمم المتحدة. عند ذلك فقط يمكن للدول العربية أن تبدأ عملية وقف الزحف الإيراني والتركي في سوريا، وبالتالي في المنطقة العربية.
أما المجال الآخر الذي يستطيع العرب فيه أن يساعدوا إدارة بايدن هو النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي. فقد تسببت إدارة ترمب في إلحاق ضرر بالغ في فرص تحقيق «حل الدولتين»، وهو ما تدركه إدارة بايدن التي أعطت إشارات بأنها على استعداد لإحياء فرص هذا الحل.
على الرغم من أن خطة ترمب أصبحت الآن في حكم المنتهية، فإنه ما زال هناك احتمال لقيام إسرائيل باتخاذ إجراءات أحادية لتنفيذها، خاصة خلال الأسابيع المقبلة قبل تولي إدارة بايدن مقاليد الحكم. ورغم تحرك بعض الدول العربية لإقامة علاقات دبلوماسية واقتصادية مع إسرائيل، فإن الجميع ما زالوا ملتزمين بإقامة دولة فلسطينية على حدود 5 يونيو (حزيرتن) 1967 والقدس الشرقية عاصمة لها، وحل عادل لقضية اللاجئين طبقاً لقرارات الأمم المتحدة.
فقد حان الوقت للفلسطينيين أن يتقدموا - بدعم عربي - بتصور مفصل للحل. وفي هذا الصدد، هناك العديد من الأفكار، حيث عرضت في مقالتين في فبراير (شباط) وأغسطس (آب) من العام الحالي بعض المقترحات، كما طرح السيد نبيل فهمي، وزير خارجية مصر الأسبق، أفكاراً مهمة في هذا الصدد في مقال نشر في فبراير الماضي، تتضمن قيام الفلسطينيين بطرح مبادرة مفصلة تقوم على أساس خطة السلام العربية، وتشمل العناصر التالية: تحديد حدود الدولة الفلسطينية، بما في ذلك ما يمكن أن يكون ضمن تعديلات طفيفة على الحدود لتوحيد القرى، صيغة مناسبة للقدس الشرقية كعاصمة للدولة الفلسطينية تعالج أيضاً مسألة العبادة لجميع الأديان والترتيبات العملية ذات الصلة، معالجة قضية اللاجئين الفلسطينيين، وخاصة المسؤولية الإسرائيلية في هذا الشأن، وكيفية تحقيق الأمن للفلسطينيين مع مراعاة متطلبات إسرائيل الدفاعية.
وأعتقد أن الظروف أصبحت مواتية لطرح مبادرة عربية تهدف إلى إنقاذ حل الدولتين. وهو ما أعتقد أن إدارة بايدن سترحب به من منطلق أنه سيساهم ليس فقط في إعادة العملية إلى مبدأها الأساسي: الأرض مقابل السلام، وليس السلام من أجل السلام كما يروّج نتنياهو، وإنما كذلك في إدارة علاقاتها مع إسرائيل على نحو أفضل.
ومن خلال تقديم مبادرات لتسوية مثل هذه القضايا التي لطالما تشكل مصدر إزعاج للولايات المتحدة، سيكون من الممكن خلق أرضية جيدة لانخراط الدول العربية بشكل بنّاء مع إدارة بايدن. وهذا من شأنه أيضاً أن يخفف من الانطباع الذي تروّجه وسائل الإعلام الإسرائيلية والإيرانية والتركية بأن إسرائيل نجحت في خلق جبهة موحدة مع بعض الدول العربية ضد إدارة بايدن تحسباً لسياساتها تجاه إيران. فإسرائيل قادرة على تحمل تبعات تحدي الإدارة الجديدة، ولكن لا بد أن يكون للدول العربية بدائل أفضل للتعامل مع إدارة بايدن القادمة.
من وجهة نظري، لا أرى تطابق مصالح بين الدول العربية وإسرائيل في المنطقة. لكن قد يكون هناك بعض التقارب عندما يتعلق الأمر بإيران، ولكن ذلك لا يبرر الانجراف في اللعبة التي يمارسها نتنياهو منذ فترة بعيدة. فمن مصلحة الدول العربية الحضور في أي مفاوضات جديدة بشأن إيران؛ الأمر الذي يمكن تحقيقه من خلال إثبات العرب قدرتهم على العمل البنّاء في التعامل مع بعض المخاوف الأميركية والأوروبية، وخاصة تلك التي تخدم أيضاً مصالحهم الوطنية.
ولذلك؛ يتعين على الدول العربية أن تتخذ مبادرتين خلال الأسابيع القليلة المقبلة؛ الأولى تتعلق بالقضية الفلسطينية، والأخرى تتعلق بسوريا. وهو ما يصب ليس فقط في مصالحها المشتركة، وإنما سيساهم في خلق جو أكثر إيجابية للانخراط البنّاء مع الإدارة الأميركية الجديدة.
8:2 دقيقه
TT
العلاقات العربية أهم من أن يضحي بها بايدن
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة