علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

حمزة المزيني وحجّته إدوارد سعيد

سأفسّر للقارئ لمَ خصَّ الدكتور حمزة بن قبلان المزيني مقاله الأول: «هل قالها غلادستون؟!»، ومقاله الثاني: «لم يقلها غلادستون»، باهتمام غير عادي في موقعه الإلكتروني.
مقاله الأول فيه جهدٌ بحثيٌّ. ومقاله الثاني في الجزء الأول منه محاجة يعتقد أنَّها محاجَّةٌ قوية في تفنيد العبارة المنسوبة لغلادستون، اعتمد فيها على حصيلته في الاطلاع على الثقافة العامة. أما الجزء الثاني من هذا المقال (وهو المقال الذي يحظى باهتمام غير عادي عنده، جزؤه الأول)، والمقال الثالث: «هكذا تكلَّم غلادستون»، والمقال الرابع: «وأدلة أخرى»، ففيها جهد بالمراسلة الإلكترونية. ومع أنَّ الجهد جهد مُعتبَر وفيه فائدة، إلا أنَّ الدكتور حمزة نظر إليه بعين أخرى. وهي أنَّ دوره في الجزء الثاني من المقال الثاني ودوره في صدر المقال الثالث انحصرا في نقل إفادات كل من غاري بتلر، الأمين المساعد لمكتبة غلادستون، وبيتر فرانسيس، أمين مكتبة غلادستون، وروجر ابين، أستاذ تاريخ الشرق الأوسط الاقتصادي والسياسي في جامعة هارفارد. ورأى أنَّ دوره في معظم المقال الثالث وفي المقال الرابع اقتصر على عرض بحث الباحثة روث كلايتون وندشيفيل المعنون بـ«أهي قضية إنسانية: غلادستون، وأرمينيا، والإسلام؟». وهذا البحث الذي عرضه، كان أمين مكتبة غلادستون طلب من صاحبته (كما ورد في إفادته) أن ترسله للدكتور حمزة.
العين الأخرى، أعني بها أنه نظر إلى جهده الإلكتروني بأنه قد أظهره بمظهر الصحافي الناقل والصحافي العارض، ولم يظهره بمظهر الباحث، كما في مقاله الأول، ولا بمظهر المثقف، كما في الجزء الأول من مقاله الثاني.
لا أخفيكم أنَّه كان من الأصل لديَّ ملحوظة نقدية منهجية على الجزء الأول من مقاله الثاني، لكنني كنتُ رأيت أنْ أعفيَه من ذكرها. ولأنَّه في ردّه عليَّ («دراما العميم») جنح إلى التحوير والمغالطة والمكابرة والافتراء، فأرى أنَّه لزاماً عليَّ أن أذكرها.
اعتقد الدكتور حمزة أنَّ الجزء الأول من مقاله الثاني قام على محاجة قوية في تفنيد العبارة المنسوبة إلى غلادستون، بركونه وارتكانه إلى كتاب إدوارد سعيد: «الاستشراق». ومما قاله في محاججته التي اعتقد أنَّها قوية: «ولم يعرض إدوارد سعيد بكلمة واحدة لغلادستون، فلم يورد اسمه اطلاقاً، ولا يوجد مدخل لاسمه في فهرس الكتاب (!)، تبعاً لذلك، كما لا يوجد مدخل للقرآن الكريم في الفهرس نفسه (!)».
وبعد أن استغرق ركونه وارتكانه إلى الكتاب المذكور وإلى صاحبه، ما مقداره عشرة أسطر، ومن باب أنه ينوّع في مصادره، قال: «وهناك مصدر غير مباشر آخر يشهد بعدم صحة نسبة هذه المقولة إلى غلادستون، ذلك هو كتاب (الحضارة ومضامينها)... لمؤلفه بروس مازليش، فلم يذكر مازليش غلادستون إطلاقاً، ولم يعرض لتلك العبارة تبعاً لذلك، مع أنه أورد مقولات عنصرية كثيرة ضد الشرق، والإسلام خاصة، تفوّه بها كُتّاب وسياسيون فلاسفة وعلماء غربيون كثر، وناقشها. ولم تكن تلك المقولات أكثر شناعة من هذه المقولة».
احتجاجه بكتاب «الاستشراق» هو احتجاج خاطئ؛ فهذا الكتاب الذي ألّفه إدوارد سعيد لم يكن موضوعه أن يكون كتاباً معجمياً، يجمع فيه مؤلفه كل التحيزات والتحاملات التي قيلت في أوروبا عن الإسلام ونبيه، وعن العرب وعن المسلمين وعن العالم الإسلامي. ولم يكن موضوعه صورة الغرب والمسيحية في الكتابات الإسلامية المعاصرة.
هناك مؤلفات عديدة عن التحيزات والتحاملات على العرب والمسلمين ألّفها عرب مسيحيون، وعرب مسلمون لا يُعدّون من الإسلاميين، ومسلمون لا يُعدون كذلك إسلاميين، وغربيون، ومستشرقون من أوروبا ومن الاتحاد السوفياتي. مؤلفات هؤلاء تضمَّنت أقوالاً لم ترد عند إدوارد سعيد في كتابه: «الاستشراق»؛ فهل يعني هذا أنها غير صحيحة؟!
إنَّ الدكتور حمزة مهّد للركون والارتكان إلى كتاب إدوارد سعيد الذي هو عنده حجّة ومحجّة بالقول: «وعدم نسبه العبارة لأي مصدر أوّلي دليل قوي على عدم صحة نسبتها إلى غلادستون، وربما عدم صحة نسبتها أساساً (!). وهذا ما تؤيده أدلة أخرى. ومن أقوى تلك الأدلة أنها لا ترد في بعض الكتب التي كان يجب أن ترد فيها لو كانت صحيحة. ومن أهم هذه الكتب كتاب (الاستشراق - 1978) لمؤلفه الشهير إدوارد سعيد». وكان يكفيه أن يقول: «... أنها لا ترد في بعض الكتب التي كان يجب أن ترد فيها لو كانت صحيحة. وهذه الكتب هي المؤلفات التي أشرت إلى موضوعها أعلاه»، من دون أن يتكئ على كتاب إدوارد سعيد اتكاءً مسرفاً، ومن دون أن يذكر كتاب بروس مازليش، حتى لا يأتي أحدهم، فيقول (متندراً) إن هذين الكتابين في موضوعهما هما حصيلته في الاطلاع على الثقافة العامة!
إنَّ الدكتور حمزة ما كان بحاجة إلى أن يحتجَّ بكتاب إدوارد سعيد: «الاستشراق»، ولا أن يتعامل معه بوصفه الحجّة والمحجّة لو كان حسن الاطلاع على الكتابات العربية بمختلف تياراتها واتجاهاتها، الآيديولوجية والأكاديمية. فهذه الكتابات قبل أن ينشر كتاب إدوارد سعيد باللغة الإنجليزية عام 1978، وقبل أن يترجم إلى العربية عام 1981، لا يرد فيها أن غلادستون قال العبارة المنسوبة له عند الإسلاميين. كما أن كتابات المصريين السياسية والتاريخية التي تعرَّضت للاستعمار البريطاني قبل منتصف القرن الماضي وفي أثنائه وبعده، لا يرد فيها ذكر للعبارة المنسوبة لغلادستون عند الإسلاميين.
وقد لا يعلم الدكتور حمزة أنَّ المثقفين والأكاديميين العرب منذ عقود طويلة لا يعتدّون بما يقوله الإسلاميون عن الغرب وما ينسبونه له. لأنهم يحكمون على ما يقوله هؤلاء بأنه غير واقعي وغير علمي.
إنَّ المزلق المنهجي الذي وقع الدكتور حمزة فيه، في منتصف عام 2014، الذي سلطنا الضوء عليه آنفاً بما فيه الكفاية، ما زال يتكرر في قراءته للمسألة الغلادستونية عند الإسلاميين إلى اليوم. ففي اليوم الذي نشر مقالي الأخير فيه: «حمزة المزيني والمسألة الغلادستونية»، كتب تغريدة نصُّها ما يلي:
«المقتطفات التالية مما تتبعته منذ سنة 2014 عن مصادر العبارة المنسوبة لغلادستون، لتبين أن ادعاءات الأستاذ علي العميم تفتقر إلى الصحة، وإذا أراد فسوف أصور له مراسلاتي المستمرة إلى الآن في البحث عن مصادر لها! ليستمتع الأستاذ العميم بهذه الدراما!».
سأورد مقتطفاته مع التصرف في ترتيبها كما وردت عنده. وأعلق على كل مقتطف منها على حدة.
المقتطف الأول: «ولم ترد في كتاب حسن البنا: مذكرات الدعوة والداعية».
التعليق: لم ترد فيه، لأنَّه لم يقرأها في مقال، ولم يسمع بها. ولو كان الأمر خلافَ ذلك، فإنه لن يتورّع عن ترصيع كتابه بها، حتى لو علم أنها مدسوسة على غلادستون. لا أدري من يخاطب الدكتور حمزة في هذه الملحوظة: هل يخاطب نفسه أم يخاطبني أم يخاطب الإخوان المسلمين والإسلاميين عامة؟!
المقتطف الثاني: «وردت بلفظ: وقد قال غلادستون: لا راحة لمعالم (هكذا) (يعني قومه) ما كان القرآن، في مقال بعنوان: (أمسلم أم مبشر بروتستنتي؟) في مجلة (الرسالة) المصرية. العدد 274، بتاريخ 3/ 10/ 1938م، ولم يظهر اسم كاتب المقال الذي يبدو أنه الحلقة الثالثة من مثال يتناول كتاباً بعنوان: (كتاب المبشرين الطاعن في عربية القرآن)».
هذا مثال جيد ومهم في التتبع. وأهميته أنَّه أتى ما بين ورودها عند رشيد رضا في عام 1898 بصيغتها الأولى عند العرب، التي لم ترد إلا عند أحمد أمين في عام 1952 في كتابه «يوم الإسلام» الذي نقلها حرفياً منه، وورودها في الطبعة الثانية عند عمر فروخ في ترجمته لكتاب «الإسلام على مفترق طرق» في طبعته الثالثة عام 1951. ونلحظ أنها بعيدة كل البعد عن صيغتها عند رشيد رضا، وقريبة إلى حد ما من صيغتها عند عمر فروخ.
لكنني قد قرأت هذا المثال الجيد والمهم على نحو غير ركيك، في العدد الذي ذكر الدكتور حمزة رقمه وتاريخه. كاتب المقال من أنصار مصطفى صادق الرافعي، وكانت مجلة «الرسالة» ترمز إلى اسمه بـ«أستاذ جليل».
ونص ما قاله على نحو صحيح وتام، هو: «وقد قال غلادستون: لا راحة للعالم (يعني قومه) ما كان القرآن. وقال سوّاس فرنسيون: لن يكون لنا الملك الحق في بلاد المغاربة أو نغرب دين القوم».
وعنوان مقاله كان «كتاب المبشرين الطاعن في عربية القرآن: أمسلم مصري أم مبشر بروتستنتي؟».
والكتاب لا يتناول كتاباً بعنوان: «كتاب المبشرين الطاعن في عربية القرآن». لأنَّه لا يوجد كتاب بهذا الاسم. والعنوان الذي أشرت إليه كان عنوان مقالاته الثلاث.
«أستاذ جليل» في جملته التي وضعها بين هلالين (يعني قومه)، كان يفسّر بها كلمة العالم. وهذه الكلمة كان المقصود بها العالم أجمع بما فيه العالم الإسلامي، وليس كما فسّرها هو بأنه عالم قوم غلادستون.
موضوع مقاله الثالث ومقاليه السابقين هجومٌ دينيٌّ على مقالة نشرت بمجلة في القاهرة، لم يسمّ صاحبها ولم يسمها، طالب فيها كاتبها بتيسير نحو اللغة العربية أو قواعدها، بمناسبة اقتراح وزارة المعارف المصرية تيسير القواعد للطلاب. وقد أشار «أستاذ جليل» إلى أن الكاتب مسلم مصري. واتهمه بالردة عن الإسلام.
في قضية تيسير نحو اللغة الغربية، يرى «أستاذ جليل» أنَّ هذه القضية هي بين كتابين: كتاب العربية، وهو القرآن. وكتاب المبشرين البروتستانت، وهو كتاب «مقالة في الإسلام» لجورج سيل (1697 - 1739) الذي ترجمه إلى اللغة العربية هاشم العربي (اسم مستعار) عام 1891. وقد مشرقَ مترجمُ الكتاب اسم مؤلفه، فجعله جرجس سال الإنجليزي. الكتاب مكون من ثمانية فصول، ووضع تذييلاً لفصوله الثلاثة الأولى حشاها بطعون في عربية القرآن، لينفي عنه صفة الإعجاز اللغوي.
اتهم «أستاذ جليل» الكاتب المسلم المصري بأنه استشفَّ آراءه في تيسير اللغة من تذييل هاشم العربي، الذي وسم تذييله بأنه استدراك على المؤلف. هذا الكتاب المترجم إلى العربية كان كتاباً رائجاً. وتعددت طبعاته في أول القرن الماضي. «أستاذ جليل» يرى أن المبشرين البروتستانت في مصرهم الذين نشروه. والكتاب مطبوع في «المطبعة الإنجليزية الأمريكانية ببولاق».
الشيخ محمد حلاوة المرصفي الذي كتب رداً عنوانه «كتاب ثبات الإيمان ونصرة القرآن في الرد على هاشم العربي الطاعن في القرآن في كتابه المسمى بالتذييل»، عام 1911، ذهب إلى أنَّ المترجم «رجل متنصّر يدعى بهاشم العربي ونزيل البلاد الإنكليزية»
بينما «أستاذ جليل» في خاتمة مقاله الثالث قدَّم اتهاماً خطيراً لشخصية نهضوية عربية كبيرة، إذ قال فيها: «إن هاشماً العربي هو صاحب مجلة (الضياء)، ثم نجمت طبعة للكتاب بعد موت اليازجي وفيها: هاشم العربي الشيخ اليازجي». واليازجي المقصود هنا الشيخ إبراهيم ابن الشيخ ناصيف اليازجي. وللحديث بقية.