داود الفرحان
حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة بغداد عام 1968. نائب نقيب الصحافيين العراقيين لثلاث دورات، الأمين العام المساعد لاتحاد الصحافيين العرب. مدير «مركز المعلومات والبحوث» في وزارة الثقافة والإعلام العراقية. معاون المدير العام لوكالة الأنباء العراقية. المستشار الإعلامي للسفارة العراقية في القاهرة (1989 - 1990). كاتب عمود صحافي في الصحف العراقية منذ عام 1966، وكاتب عمود في مجلات: «المجلة» السعودية، و«الأهرام العربي»، و«الصدى» الإماراتية، و«اليمامة» السعودية، و«التضامن» اللندنية. رئيس تحرير صحف ومجلات عراقية أسبوعية عدة ومؤلف لعدد من الكتب.
TT

أولويات بايدن غير أولويات ترمب

قال الرئيس الاميركي جو بايدن بصريح العبارة في خطابه في عيد الشكر يوم 26 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي إن بلاده «ستقود العالم فيما يتعلق بالمناخ وإنقاذ كوكب الأرض». وهو استخدم شعاراً جديداً يقول: «سنقود العالم بقوة مثالنا، وليس مثال قوتنا». وهو قول متأثر بأكاديمية التلاعب اللغوي الذي برع فيه رئيس الوزراء العراقي الأسبق إبراهيم الجعفري مثل: «الكونفوشيوسية» و«المارد والقمقم» و«الحكومة الملائكية» و«العراق مستعد للانفتاح على (داعش)»!
فهل لم يعد أمامنا من أمل في رد أميركي سريع على استمرار إيران في تصنيع القنبلة الذرية؟ لكن لا بد من إيجاد وسيلة بأي صورة للجم إيران، ووضعها عند حدها، وضرب مشروعها التدميري. الرد المفاجئ ربما جاء من إسرائيل كما قالت إيران. وإذا صح ذلك الاتهام فإن الأميركيين اغتالوا في بغداد قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني في بداية عام 2020، وقتل الإسرائيليون أبا القنبلة النووية الإيرانية محسن فخري زاده في طهران في أواخر العام نفسه. يا له من عام أسود على إيران! وردت طهران فوراً على اغتيال العالم النووي بقتل خمسة متظاهرين من الشباب العراقي في مدينة الناصرية جنوب العراق. يا له من عام أسود على المتظاهرين العراقيين السلميين.
إذن، الرئيس الأميركي المنتخب بايدن له أولويات أخرى غير أولويات ترمب. فمن الصدف العجيبة أنه بعد تأجيل ثلاث سنوات أصبحت الولايات المتحدة أول دولة في العالم تنسحب رسمياً من اتفاقية باريس للمناخ في أول أيام الانتخابات الأميركية الأخيرة. وبهذا تغادر الولايات المتحدة الاتفاقية التي تضم 195 دولة عدا سوريا ونيكاراغوا. وتركز الاتفاقية على الحد من انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري وارتفاع درجة حرارة الكرة الأرضية.
وترى واشنطن أن الاتفاقية «ستقوض الاقتصاد الأميركي» وتكلف الولايات المتحدة وظائف وتضعف السيادة الوطنية الأميركية. لكن قرار ترمب واجه اعتراضات داخلية أهمها ولاية كاليفورنيا وعدد من الشركات ورواد الأعمال والقطاعات الصناعية. وسارعت الصين والهند إلى انتقاد الخطوة الأميركية، خاصةً أن ترمب سبق أن اتهمهما بأنهما «أكبر مسببي التلوث في العالم». لكن الولايات المتحدة نفسها تمثل حالياً نحو 15 في المائة من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري العالمية. وقال أندرو لايت، الذي كان مسؤولاً كبيراً في مجال تغير المناخ في إدارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما: «إن الانسحاب يضر بسمعة الولايات المتحدة».
قد يتبادر إلى أذهاننا نحن العرب أننا لا نعاني من مشكلة الاحتباس الحراري، إلى درجة نعتقد معها أن الشمس تخصنا برعايتها صيفاً وشتاء، لكن الحقيقة أن دول العراق ومصر والمغرب والسودان والصومال وجيبوتي واليمن ودول الخليج العربي مهددة بهذه الظاهرة التي قد تصل إلى حدوث فيضانات وتصحر واختلال زراعي وشحة مياه الأنهار، وتأثيرات صحية على الإنسان والحيوان بسبب ارتفاع درجة الحرارة التي قد تصل معدلاتها إلى 57 درجة مئوية!
مع كل هذه المخاطر، فإن الدول العربية لا تولي اهتماماً مناسباً لتقليل الأضرار وتبادل المعلومات والبحث عن حلول تخفف احتمالات الجفاف والتباطؤ الاقتصادي والتراجع السياحي والمجاعة والأوبئة وانقراض عدد من أنواع الحيوانات والنباتات. وكانت مجلة «ناشيونال جيوغرافيك» الأميركية قد حذرت في أكثر من عدد من احتمال اختفاء جزر في المحيطات والبحار ومدن شهيرة مثل البندقية (فينيسيا) في إيطاليا وصحارى وظواهر بيئية أخرى.
لا أتذكر إذا كانت جامعة الدول العربية قد خصصت أحد اجتماعاتها الكثيرة لمناقشة مخاطر التغير المناخي. إلا أن بعض الجامعات العربية مثل جامعة طنطا في مصر ناقشت الظاهرة، وقرأت بحثاً بعنوان «القانون والبيئة» للدكتور سعيد فتوح النجار أكد فيه أن مشكلة الاحتباس الحراري ليست مشكلة إقليمية وإنما تتسم بالعالمية، وأن عواقبها لا تقتصر على الأجيال الحالية بل ستتحمل الأجيال القادمة أعباء هذه الظاهرة التي يتطرف بعض الباحثين إلى حد وصفها بأنها «ستؤثر على وجود البشرية وتهدد حياة الإنسان». وحتى لا نخفي رؤوسنا في الرمال فإن الدول المنتجة للنفط عربياً وعالمياً متهمة بأن النفط ومشتقاته يعملان على زيادة درجة حرارة الغلاف الجوي من ثلاث إلى أربع درجات، كما توجه أصابع الاتهام إلى الصين والهند في زيادة مستويات التلوث الفضائي. وهذا الاتهام الأخير هو أحد أسباب انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس للمناخ، وهو ما دفع الرئيس الأميركي المنتهية ولايته دونالد ترمب إلى التصريح بأن بلاده لن تدفع فاتورة الأضرار التي تسببها دول أخرى.
المشكلة تصاعدت من الاهتمام الحكومي إلى الاهتمام الشعبي في بعض الدول مثل بلجيكا، حيث قام مدافعون عن المناخ باقتحام معرض بروكسل للسيارات ما دفع الشرطة إلى اعتقال 185 ناشطاً بدلاً من أن تشكرهم!
وأعود إلى ما بدأتُ به من اهتمام بايدن بالمناخ وانصرافه ربما عن الأزمات التي ركز عليها سلفه ترمب، مثل النشاط النووي الحربي الإيراني والعقوبات الاقتصادية والميليشيات الإيرانية في العراق وسوريا ولبنان واليمن. ليس من حق بايدن أن ينفض يديه من التركة الثقيلة الدامية التي أدى إليها الاحتلال الأميركي للعراق في عام 2003 على يد الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن الذي قال بعد أقل من شهر واحد: «انتهت المهمة» وأغلق الباب وراءه. وحين أراد الرئيس الأسبق باراك أوباما تكحيل عين الاحتلال «عماها» بتسليم العراق تاريخاً وحضارة إلى ملالي إيران لتحيله إلى متحف دمار ونهب، لا يقارن بكل تأثيرات التلوث الصيني والهندي الذي حكى عنه ترمب. لقد سمعنا جعجعة ضاجة طوال عهد ترمب لحل مشاكل العراق الأسير، فإذا به يكتفي باغتيال قاسم سليماني قائد فيلق القدس وإغلاق جزئي للسفارة الأميركية في بغداد وفرض عقوبات اقتصادية ضد إيران، بسبب نشاطها النووي وليس تدخلاتها في الخارج.
العراقيون يقولون لبايدن: مثلما احتللتم العراق بين يوم وليلة، عليكم أن تنقذوه من الهيمنة الإيرانية التي لا تكتفي بالعراق فقط وإنما معه سوريا ولبنان واليمن ومياه الخليج العربي. العراقيون والسوريون واللبنانيون واليمنيون يريدون استعادة أوطانهم من الهيمنة والفساد الإيرانيين قبل الحديث عن المناخ والنسيم العليل.
فهل سيحرك الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن أي بيدق في رقعة الشطرنج الإيرانية، أم أنه سيفعلها فقط إذا ألحقت طهران أضراراً بالمصالح الأميركية بشكل مباشر.