يعرف خبراء الأسواق المالية والاقتصاد عاملا نفسيا يلعب في أحيان دورا كبيرا في تحريك السوق المالية إيجابا أو سلبا، وهو عامل الشعور بالثقة، فمتخذو القرارات بالشراء أو البيع هم في النهاية بشر؛ عندما يكون مزاجهم جيدا ويشعرون بالثقة يسهمون في تعزيز السوق، وعندما يكون مزاجهم سوداويا ويخشون المستقبل يبدأون في البيع المذعور لتنهار الأسعار.
نفس الحال ينطبق تقريبا على المجتمعات والسياسة، فإذا كان هناك شعور بالثقة بين طرفي العقد الاجتماعي، أي الحاكم بمؤسساته المختلفة، والمحكوم بمكوناته المجتمعية، تصبح الاضطرابات السياسية أقل، والقرارات أكثر تقبلا، خاصة إذا كانت في بعض الأحيان تحتاج إلى تضحيات.
في مصر كانت مؤشرات تبدل المزاج الشعبي الذي كان يميل خلال العقدين الأخيرين على الأقل إلى تشكك من جانب المحكوم في سياسات الحاكم وقراراته، إلى ثقة بدأت ملامحها تظهر بعد انتخابات الرئاسة التي فاز بها السيسي بأغلبية شعبية واضحة.
ظهر ذلك من التقبل الشعبي بعد تسلمه الرئاسة بفترة قليلة لقرارات غير شعبية لخفض دعم الوقود في إطار إصلاحات اقتصادية ضرورية، وكان يمكن أن تُحدث اضطرابات واحتجاجات اجتماعية واسعة كما حدث في حالات عديدة خلال فترتي حكم مرسي أو مبارك. هذه المرة كان هناك تفهم لأهمية هذه القرارات حتى لو كانت مؤلمة من أجل مستقبل أفضل.
تسلم الحكم الجديد، أو ما يطلق عليه البعض الجمهورية الثالثة، المسؤولية بتركة ثقيلة بعد ثلاث سنوات من الاضطراب استنزفت الاقتصاد الذي كان يعاني أصلا من مشاكل هيكلية بخلاف ما سببته المصادمات التي حدثت والصراعات من تهديدات للنسيج الاجتماعي نفسه.
ومثلما كان هناك من يراهن على فشل النظام الجديد في وجه هذه الصعوبات بعد فترة عندما تتلاشى فورة الشارع الذي جاء بالحكم الجديد، كان أيضا هذا الشارع يراقب بقلق النظام الجديد؛ فقد كان الخيار السابق، الذي جاء في لحظة ارتباك ضربت الجميع، كارثيا. وكاد يضع البلاد على حافة حرب أهلية، ولا أحد يريد فشلا جديدا، أو لديه ترف التجربة مرة أخرى، والكل داخليا وخارجيا يراقب مؤشر الثقة أو المزاج العام.
وهناك إشارات لا تخطئها عين على مؤشرات إيجابية في المزاج العام المصري، فلا بد أن كثيرين توقفوا أمام الاستقبال الحار جدا والتصفيق الطويل من الحضور في الكاتدرائية الرئيسية التي أقام فيها البابا قداس أعياد الميلاد المسيحية المصرية الأسبوع الماضي، وهو مشهد مختلف عن الأعوام الماضية عندما كان التشكك هو سيد الموقف، وهناك حالة خطرة تسبب فيها متطرفون وهددت النسيج المجتمعي. وهناك شواهد أخرى سابقة على المزاج الإيجابي قد يكون أقربها الاكتتاب الذي فاق المطلوب بكثير خلال فترة قصيرة للسندات التي طرحت للمشروع الجديد لتوسعة قناة السويس.
لا يستطيع أحد أن يقول إن هناك تغيرا مفاجئا أو جذريا حدث في الحياة اليومية للمجتمع المصري، فالكثير من المشاكل السابقة المتراكمة اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا لا تزال قائمة ولا أحد يتوقع أن تحل في يوم أو سنة أو حتى بضع سنوات.
إذن، ماذا حدث وخلق حالة الثقة والإيجابية هذه؟ الإجابة هي الجدية، فالناس بتفاوت ثقافتهم ومستويات تعليمهم يدركون في النهاية أن لا أحد لديه عصا سحرية تحل المشكلات بين يوم وليلة، لكن أيضا ليس هناك شيء لا يحل طالما توفرت الإرادة، وهم يحتاجون للشعور بأن هناك جدية من صانع القرار أو الحاكم، في معالجة هذه المشكلات، والسير معهم على الطريق الصحيح في الحل، وهذا ما فعله النظام في عهد السيسي، فتولد هذا المزاج الإيجابي من الثقة.
لقد نشرت «رويترز» تقريرا بالأمس حول نجاح الحكم في عهد السيسي فيما فشل فيه عهدا مرسي ومبارك في معالجة مشكل الخبز المدعوم ووصوله إلى مستحقيه بتطبيق أسلوب البطاقات الذكية في عدد من المحافظات والتي أرضت الناس وأوقفت الطوابير، بينما الكل يحصل على حصته، بما يخفض الاستهلاك بنحو 30 في المائة بعد وقف الهدر، وهو ما فشل فيه عهدا مرسي ومبارك، وهو دليل على أن النجاح ممكن، والجدية في التفكير والعمل تؤتي ثمارها أيا كانت الصعوبات.
8:2 دقيقه
TT
مؤشرات «الجدية» في مصر
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة