عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

عندما تأتي السياسة بنتائج عكسية

تناولنا سابقاً حساسية رجل السياسة والحكومات المنتخبة لتقلبات الرأي العام، وكيف تأتي سرعة الاستجابة لهذه التناقضات بنتائج عكسية. المسؤول يعتقد أن نجاح حكومته في الانتخابات بسبب هذه الاستجابة يعني «زيادة الخير خيرين». وعند فشل السياسة يستطيع تغييرها بمساعدة أغلبية برلمانية نتيجة نجاحه في الانتخابات. أما إذا أدت السياسة لخسارة الانتخابات لأسباب اقتصادية، فإن الحكومة التالية، (وهي المعارضة الحالية) تدفع ثمن فاتورة الأخطاء وتتحمل النتائج والخسائر السياسية وينتقل الحاكم الذي اتخذ القرار اليوم إلى مقاعد المعارضة غداً مصوباً منها الانتقادات؛ ويظهر في التلفزيون بشعارات لا تكلفه شيئاً، في انتظار أن تأتي رياح الانتخابات التالية بما لا تشتهي سفن خصومه في الحكم.
جالت الأفكار بخاطري قبل أيام عندما أعلن رئيس الوزراء بوريس جونسون في مجلس العموم خطة الحكومة للطاقة الخضراء والحفاظ على البيئة بقرار منع بيع سيارات بمحرك الاحتراق الداخلي؛ وإجبار المنازل والمكاتب على تغيير وقود التدفئة ومعظمهم يستخدمون الغاز الطبيعي، والبعض يستخدم زيوت الوقود، إلى استخدام الكهرباء أو الهيدروجين. الإجراءات تدخل حيز التنفيذ بنهاية عام 2030.
فور انتهاء رئيس الوزراء من خطابه وجدت نفسي أبعث بتغريدة «تويتر» بوريس جونسون يذكرني برجل أنفق كل راتبه الشهري على شراء 20 كيلوغراماً من الدواجن واللحوم، وعشرات أكياس الخضراوات المجمدة والفواكه، وفي البيت نبهته زوجته أنهم لا يمتلكون ثلاجة أو صندوق تجميد (فريزر).
وهناك مثل إنجليزي «ضع الحصان أمام العربة»، أي ضروة ترتيب الأولويات المترابطة. باختصار لا يبدو أن حكومة جونسون فكرت ملياً أو حسبت بدقة مصادر توليد طاقة كهربية تكفي 40 مليوناً و400 ألف سيارة وشاحنة مختلفة الأحجام والاستعمال تسير في شوارع بريطانيا اليوم. وبمعدل نمو واحد في المائة سيفوق العدد 47 مليون سيارة تسعى الحكومة لأن يكون معظمها بمحرك كهربي في 2030.
هنا أشارك مع القراء ليس ردود فعل الساسة والمعلقين، وإنما رد فعل أبناء الشعب في شكل خطابات أرسلها المواطنون العاديون إلى الصحف لتنشرها.
الخطابات إلى المحرر تقليد بريطاني قديم يعكس بالفعل اتجاهات الرأي العام - وليس التلفزيون الذي يقتحم غرف الجلوس. فقارئ الصحيفة يذهب بنفسه لشرائها، وبالتالي فاهتمامه بإرسال خطاب إلى محرر صحيفته يعبر عن تيار عام، ليس فقط في بريطانيا، وإنما يصلح لكل بلد وشعب. فحكومة بريطانيا ليست استثناءً في استجابتها لهستيريا خلقتها جماعات ولوبيات تمويل الطاقة الخضراء، التي أصبحت كديانة أو عقيدة جديدة يتهم كل من يعارضها بالكفر والزندقة؛ واشتكى طلاب من إنقاص المصححين أرقامهم، إذا شككت الإجابة في التسليم بصحة أرقام الطاقة الخضراء والتسخين الحراري. بل يشك كثيرون في أن يكون في حسابات الجماعات التي خلقت هذه الهستيريا مسارعة الحكومة مبكراً بتغيير طريقة المواصلات والطاقة التي تعتمد عليها كل فروع الاقتصاد والحركة في المجتمع، بل والتدفئة لثمانية أو تسعة أشهر في العام.
«لماذا يظهر الساسة دائماً عدم تفهمهم لكيف يعيش غالبية الناس حياتهم؟» يتساءل بيتر إيميه في خطابه لمحرر «التلغراف» اليومية، «السيارة بالمحرك الكهربي ثمنها ضعفا سيارة بالديزل، بجانب ثمن البطاريات المرتفع. وستصبح بريطانيا مثل كوبا تحت حكم كاسترو عندما منعت استيراد سيارات جديدة، ولذا تفنن الميكانيكيون الكوبيون في تصنيع قطع الغيار، لتستمر سيارات عمرها ستون عاماً في السير بمحركات قديمة، وهذا ما سيفعله فقراء بريطانيا غير القادرين على شراء السيارات الكهربائية وينتهي الأمر بسيارات أكثر تلويثاً للبيئة».
الأرقام هذا الشهر أن المتوفر في بريطانيا من نقاط الشحن السريع للسيارات الكهربية (أي ساعة أو أقل في رحلة 100 ميل) هو 19380 (أي نقطة شحن لكل 454 ألف سيارة حالياً)، و7032 نقطة شحن عادية تستغرق ما بين أربع إلى ثماني ساعات لشحن سيارة؛ وهو أمر غير واقعي، حتى إذا تحول واحد في المائة فقط من سيارات البلاد إلى الطاقة الكهربية، فلا يوجد ما يكفي لشحن 444 ألف سيارة يومياً.
ريتشارد سميث، الذي يعتمد في عمله كمهندس معماري على التنقل بين المقاطعات، أرسل خطاباً إلى المحرر «أستطيع ملء خزان سيارتي في أقل من أربع دقائق في محطة بنزين وأقود السيارة 600 ميل قبل ملء الخزان مرة أخرى، هل فكرت الحكومة كم مرة سأتوقف لشحن البطارية وكم يستغرق الوقت؟ رحلة تستغرق اليوم أربع ساعات ستضطرني للمبيت ليلة في فندق لن يتوفر فيه ما يكفي لشحن بطاريات كل سيارات النزلاء».
وحتى إذا تمكن المشروع من تركيب مليون نقطة شحن في العام الواحد (وهو أمر غير معقول) فنقاط الشحن ستكون عشرة ملايين في عام 2030 أقل من خُمس عدد السيارات والشاحنات في شوارع البلاد. ولأن المشروع يحتاج تمويلاً، يتساءل جون ماكليرن في رسالة في «التايمز»: «الخزانة تحصل على 38 مليار دولار سنوياً من ضريبة وقود السيارة، كيف ستعوض هذا؟».
خبراء الحكومة، الذين استضافتهم شبكات التلفزيون المتحمسة لفكرة السيارات بالمحرك الكهربي، يعدون بوضع أعمدة شحن لكل سيارة على الأرصفة؛ مما دفع السيدة آن هيوارد للتساؤل في خطاب لـ«الديلي ميل»: «عندما تمتد أسلاك الشحن على الأرصفة، كيف تتمكن الأمهات بعربات الأطفال من المرور لشراء الحاجيات، وكذلك الحال لعجزة بالكراسي المتحركة، وعندما يتعثر أحدهم ويصاب بأذى، من سيتحمل المسؤولية؟».
قارئ بعث برسالة إلى «الإكسبرس» يتساءل «الوزراء وصناع القرار لديهم بيوت فسيحة، وحوش أمامي يستطيعون ركن السيارة فيه لشحنها أثناء الليل، ماذا عن ملايين الفقراء الذين يعيشون في شقق بسبب التوسع الرأسي في الإسكان، كيف وأين سيشحن هؤلاء سياراتهم؟».
أمور لم يحسبها صناع القرار، في ظاهرة عالمية لأنهم لم يختبروا الحياة اليومية للمواطن البسيط، وخطاب مايكل كاي، وهو مهندس تصميم سيارات، إلى «الديلي تلغراف» يلخص الحالة «محرك الديزل لا يزال هو الأفضل بالنسبة للبيئة في رحلات المسافات الطويلة، لكن التعجل بقرارات حكومية، قبل عشر سنوات كحال قرارات اليوم، دفع الناس لاستخدام سيارات ديزل في مشاوير قصيرة يناسبها سيارات الهيبرد (محرك بنزين يولد كهرباء)، والسياسة المتهورة اليوم تعني أن شبكة الكهرباء القومية لن تكون كافية للسيارات؛ ولذا فأفضل استثمار اقتصادي هو الاحتفاظ بسيارتي بمحرك ديزل، لأن ثمنها سيتضاعف في عام 2031».