فيتالي نعومكين
رئيس «معهد الاستشراق» التابع لأكاديمية العلوم الروسية/ موسكو
TT

ناغورني قره باغ: ماذا بعد؟

منذ نشر مقالتي عن تفاقم النزاع الأرميني - الأذربيجاني حول ناغورني قره باغ في الصحيفة قبل شهر تقريباً وحتى هذا التاريخ، تطور الوضع في المنطقة بسرعة كبيرة. فقد فشلت اتفاقيات وقف إطلاق النار، وأظهرت مجموعة مينسك عجزها، واشتدّت الأعمال القتالية، وازداد عدد الضحايا، واستطاعت أذربيجان، التي تلقت دعماً من تركيا، توسيع رقعة المناطق المستعادة التي كان قد سيطر عليها الأرمن، ومن بينها جزء من قره باغ نفسها. بدا وكأن الأمور تتَّجه نحو الهزيمة الكاملة للجانب الأرميني. بيد أنه في 9 نوفمبر (تشرين الثاني)، وقع حدث وبشكل غير متوقع بالنسبة لمعظم المراقبين، جذب انتباه المجتمع الدولي بأكمله إلى المنطقة: إذ وقعت موسكو وباكو ويريفان، بعد 44 يوماً من النزاع المسلح بين أرمينيا وأذربيجان، اتفاقية دخلت حيز التنفيذ بسرعة، وأدت إلى إحداث تغيير جذري في الوضع.
من دون تكرار التفاصيل المعروفة، سأشير فقط إلى أهم نتائج الاتفاقية: تم، بدءاً من 10 نوفمبر، وقف الأعمال القتالية تماماً، وبقيت الأطراف في المواقع التي شغلتها، بما في ذلك على أراضي قره باغ نفسها، وتم نشر وحدة من قوات حفظ السلام الروسية على الفور في المنطقة (1960 عنصراً، 90 ناقلة جند مدرعة ومعدات أخرى لمدة خمس سنوات) لضمان الفصل بين الأطراف المتنازعة. وستتم إعادة ثلاث من المناطق السبع الأذربيجانية «المحتلة» إلى أذربيجان، وإنشاء ممر على أراضي أرمينيا تحت حماية الجيش الروسي يربط أذربيجان بإقليم ناخيتشيفان التابع لها، وكذلك إنشاء - على الأراضي التي ستعاد إلى أذربيجان في منطقة لاتشين عبر طريق جديد خلال مدة ثلاث سنوات - ممر بعرض 5 كيلومترات يربط قره باغ بأرمينيا وتحرسه أيضاً قوات حفظ السلام الروسية. وسيعود النازحون واللاجئون إلى ديارهم، وستُسحبُ القوات الأرمينية من قره باغ.
وبناءً على ذلك وقعّت موسكو وأنقرة في 11 نوفمبر مذكرة تفاهم بشأن المركز التركي - الروسي المشترك لمراقبة الالتزام بنظام وقف إطلاق النار، مع العلم بأن هذا المركز سيعمل على أراضي أذربيجان.
هذا التطور للأحداث جعل من الممكن ملاحظة النقاط المهمة التالية: أولاً، أظهرت روسيا أنها وحدها القادرة على لعب دور الوسيط الفعال في جنوب القوقاز، مستخدمة ما تتمتع به من ثقة جميع الأطراف المتصارعة. ثانياً، تم إعداد وتنفيذ النشر السريع لوحدة قوات حفظ السلام العسكرية في المنطقة بسرعة استثنائية. ثالثاً، أظهرت تركيا إصراراً كبيراً في سعيها للعب دور في الأحداث وإيجاد موطئ قدم لها على أراضي دول جنوب القوقاز التي هي جزء من رابطة الدول المستقلة، مستخدمة بقوة عامل «التضامن التركي». لقد وصفها محللون سياسيون وصحافيون بأنها المستفيد الرئيسي من السلام في المنطقة، حتى إنهم باتوا يتحدثون عن إدارة روسية - تركية مشتركة فيها. رابعاً، لم تلعب الولايات المتحدة ولا فرنسا، الرئيسان المشاركان في مجموعة مينسك حول قره باغ، أي دور في تسوية النزاع. خامساً، أزيلت مسألة وضع ناغورني قره باغ من جدول الأعمال في الوقت الراهن.
لكن حادثة إسقاط المروحية الروسية في 9 نوفمبر، التي كانت ترافق قافلة قوات حفظ السلام، بصاروخ أذربيجاني من منظومة دفاع جوي محمولة، مما أدى إلى مقتل طيارين وجرح آخر، عكرت انتصارَ موسكو. باكو بررت ذلك الحادث بأنه وقع بالخطأ، واعتذرت على الفور واقترحت دفع تعويض. بعض الخبراء العسكريين الروس قدّم تفسيرات أخرى لما حدث. وفقاً لأحد هذه التفسيرات، أُسقطت المروحية من قبل عسكريين أتراك بهدف تعطيل الاتفاق شبه الجاهز. غير أن هذا الحادث الخطير، وللمفارقة، دفع روسيا إلى اتخاذ إجراءات أكثر حسماً للمضي قدماً في خطتها لحفظ السلام، وجعل الأطراف المتنازعة أكثر امتثالاً: إذ إنه كان من السهل جداً تفجير الوضع حينها. باتت حياة الضابطين ذلك الثمن الذي دفعته روسيا مقابل حثها الأطراف المتنازعة على السلام والدخول الناجح لوحدات قواتها لحفظ السلام إلى قره باغ.
ووفقاً لما أعلنته وزارة الخارجية الأميركية، فقد اطلعت الولايات المتحدة على الاتفاق الذي تم التوصل إليه بوساطة روسيا، لكنها لم تعلق بعد على تفاصيل الهدنة أو الخطوات الأخرى. أما مكتب الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون فقد صرح بأنه يدرس شروط هدنة قره باغ، مشيراً إلى أن اتفاقية طويلة الأمد يجب أن تأخذ في الاعتبار مصالح أرمينيا. موسكو بدورها أشارت إلى أن دعوات فرنسا لاستئناف المفاوضات بشأن تسوية طويلة الأجل لا تزال ضرورية، حيث يجب أن تكون باريس مشاركاً نشطاً فيها، التي سيتم خلالها مناقشة وضع قره باغ. لكن كما يرى المحللون في موسكو، أن تدهور العلاقات بين باريس وأنقرة سيعيق تفاعلهم البناء بشأن هذه القضية، رغم أن تركيا ليست عضوا في مجموعة مينسك.
لكن ليس كل شيء على ما يرام في التعاون الروسي - التركي بشأن قره باغ. فكما ذكر السكرتير الصحافي لرئيس الاتحاد الروسي دميتري بيسكوف في وقت سابق، فإنه منذ بداية الصراع في ناغورني قره باغ كان لموسكو وأنقرة وجهات نظر مختلفة حول كيفية تسويته، موضحاً أن روسيا والأمم المتحدة والولايات المتحدة وفرنسا ودول أوروبية أخرى هم من المؤيدين الأقوياء لتسوية النزاع حصرياً بالطرق السياسية والدبلوماسية فقط، لكن تركيا تتمسك بوجهة نظر مختلفة. في الوقت نفسه، بحسب قوله، الذي نقلته وكالة «إنترفاكس»، رغم هذه الخلافات، أظهر التعاون بين روسيا وتركيا فعاليته في حل المشاكل الإقليمية المختلفة، وروسيا من جانبها تقدر هذا التفاعل ومستوى الثقة المتبادلة.
فقد بدت الخلافات واضحة الآن أيضاً من خلال التفسيرات المختلفة لوضع وموقع مركز المراقبة الروسي - التركي الذي يتم إنشاؤه. إذ أكد المسؤولون الأتراك في جميع خطاباتهم داخل البلاد أن العسكريين الأتراك سيعملون كقوات حفظ سلام في قره باغ. وحتى إردوغان نفسه صرح بأن تركيا ستعمل هناك «كجزء من قوة حفظ سلام مشتركة». أثارت هذه التصريحات سخطاً في أرمينيا، حيث من دون هذه التصريحات، كانت قد خرجت، كما هو معلوم، حركة احتجاجية ضخمة، ضد الاتفاق الذي توصل إليه القادة الثلاثة مطالبة باستقالة باشينيان بوصفه «خائناً». حتى في روسيا أيضاً طالب الرأي العام بتوضيح للاتفاق. إذ قام بذلك وزير الخارجية سيرغي لافروف، الذي صرح في شكل إنذار نهائي أن «حركة المراقبين الأتراك ستكون محدودة بإحداثيات جغرافية، والتي سيتم تحديدها من خلال إنشاء مركز المراقبة الروسي - التركي المستقبلي». وبالتالي، ستكون حركة العسكريين الأتراك محدودة بمحيط المركز الذي يتم بناؤه بعيداً عن حدود قره باغ. بالنظر إلى الاختلاف في تفسير الاتفاقات، من الواضح تماماً أنه لربما سيتعين على روسيا، ومن المحتمل بدعم من الشركاء الغربيين في مجموعة مينسك، حل مسألة احتواء نزعات الرئيس رجب طيب إردوغان، الباحث عن «نصر» والمعتمد على تعاطف إلهام علييف. لن تسمح روسيا للأتراك بدخول قره باغ، رغم أنها قانونياً تعتبر منطقة ضمن سيادة أذربيجان. وماذا لو اضطر إلهام علييف بضغط من أنقرة للتصرف خلافاً لموسكو؟ زد على ذلك، إذا قام الجيشان الروسي والتركي في المركز المشترك الجديد بمراقبة مشتركة باستخدام طائرات من دون طيار، بما في ذلك الطائرات المسيرة التركية، ألا يمكن أن يعني هذا السيطرة العسكرية الفعلية لتركيا على أراضي قره باغ، التي تعتبرها أذربيجان أراضيها؟ هذا في حال ما لم يتم، نتيجة للمفاوضات الصعبة المقبلة، ولادة صيغة أخرى، على سبيل المثال، وضع خاص لناغورني قره باغ أو جزء منها ضمن قوام أذربيجان. يبدو هذا الأخير بالنسبة لي شخصياً مغرياً للغاية، نظراً لأن جزءاً على الأقل من السكان الأرمن في قره باغ، الذين عاشوا هناك دائماً، يملكون الحق في البقاء في أماكنهم، لكن من غير المحتمل أن يكون التعايش ممكناً بين مجموعتين عرقيتين بعد سنوات من هذا العداء الشرس. لنتذكر أنه في لبنان الأكثر سلاماً وتجانساً، جرى هناك انتقال بعد الحرب الأهلية، لجزء من المجتمعات العرقية والطائفية من وضع الوجود السكني المتداخل إلى الإسكان المنفصل. وفي هذا الصدد، أود الإشارة إلى أن المحادثات الروسية - التركية، بحسب وسائل إعلام تركية، حول موضوع قوات حفظ السلام، التي جرت في 13 نوفمبر، كانت «صعبة للغاية»، لكن كلا الجانبين مهتم بالحفاظ على التفاهم المتبادل.
على خلفية محاولات بعض القوى التي لا تريد التهدئة، واستخدام عوامل معينة والذاكرة التاريخية للتحريض على العداء والرغبة في الانتقام، سيتعين على القادة السياسيين والقادة العسكريين وزعماء الطوائف والمجتمع لدى الأطراف المتنازعة، بدعم من قوات حفظ السلام، القيام بعمل شبه مستحيل لاستعادة الثقة والحفاظ على السلام. بالمناسبة، وفهماً للمخاوف التي تظهر، لم تكن من قبيل المصادفة مناشدة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في هذا الوقت بالذات الرئيس إلهام علييف في محادثة هاتفية في الحفاظ على المواقع المسيحية في المنطقة، حيث بدوره أكد الزعيم الأذربيجاني أن الكنائس والآثار في ناغورني قره باغ ستكون تحت حماية الدولة. على أي حال، العديد من المشاكل الأخرى ستدرج على جدول الأعمال في سياق التسوية. من الجدير بالذكر أن لافروف ناقش يوم 15 نوفمبر مع وزيري خارجية أذربيجان وأرمينيا ضرورة إشراك هياكل الأمم المتحدة في حل المشاكل الإنسانية في المنطقة.