سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

«صندوق باندورا» الفرنسي

أمران يتحكمان في الأزمة المشتعلة بين فرنسا والغاضبين من الرسوم المسيئة للنبي. الاستغلال السياسي البشع من الطرفين، وسوء الفهم العميق، الذي يبلغ حد الجهل. وكل هذا يحدث على مفصل حضاري خطير، تتلاقى عنده أحقاد التاريخ، وانتهازية الحاضر الانتخابية، وفوضى الوباء. وقل ما شئت عن التطرف العلماني الذي تتجمد عنده فرنسا، وكأن ازدراء كل شيء بما في ذلك الأديان والمشاعر، هو السبيل الوحيد لصون حرية التعبير، تجد أن قطع الرؤوس والطعن بالسكاكين، وكيل الشتائم، لا يمكن أن يكون رداً أو حلاً. فثمة 15 مليون مسلم في أوروبا، لا يريدون فتح أبواب الجحيم أو الدخول في ثأرية دموية. هم مواطنون كما بقية الخلق، يطلبون سلماً، ورزقاً وأمناً، ويسعون لتنشئة أبنائهم بسماحة. وأن يتكبد المسالمون ثمن الدفع العمد بالأمور صوب التأزيم، لصالح فئة صغيرة منتفعة أو مضللة، لهو حقاً جريمة منكرة.
أسوأ أنواع الحروب هي التي تؤجج نارها بالثقافات. وصار شائعاً أن تسمع وزيراً أو نائباً فرنسياً يتحدث عن «حرب حضارات» تدور في بلاد النور والديجور. ويتأسف الصحافي إيريك زيمور على أكبر غلطة ارتكبتها فرنسا باستقبالها ملايين المهاجرين من ثقافة أخرى، فيما يعترف وزير الداخلية جيرالد درمانان أنه لا يحتمل شخصياً رؤية المأكولات الحلال على أرفّ المتاجر، مع أن الأمر ليس بجديد؛ هناك منتوجات لليهود والصينيين والأفارقة، وكل ملة ونحلة، فمن أين يأتي ضيق الصدر ببضعة أطعمة إضافية؟ بعد الهبّة العنصرية المجنونة التي أعقبت جريمة قطع رأس أستاذ التاريخ صمويل باتي، بيد شيشاني مسلم، لأنه عرض على تلامذته رسوماً مسيئة للنبي، بدأت أصوات عقلاء، تتعالى محذرة من الانجرار وراء معاداة جالية بأكملها، ووصمها بالعنف. فالديمقراطيات تضلّ، لكنها تعود وتصحح ذاتها. وصوت النائبة كلمنتين هوتان كان صاخباً وغاضباً وهي تشرح أن فرنسا «زلت قدمها» بالفعل وأنها لربما ذاهبة إلى «حرب أهلية». وأن جلّ ما يسعى إليه اليمين من مواقفه الحادة، هو أن ينافس اليمين المتطرف في تعصبه، ليفوز في رئاسيات 2022. مستنكرة التفكير في منع الحجاب في الأماكن العامة، أو فرض أسماء بعينها على كل الأطفال. ليست وحدها هوتان مَن حذرت من الشطط بدل صياغة الأسئلة الصحيحة والبحث عن إجابات شافية. الفيلسوف الشهير ميشال أونفراي المعروف بدعوته لجعل الفلسفة للجميع، طلب من مواطنيه الإفادة من روحانية المسلمين واختلافهم، وتقدير أنفتهم من بعض المفاهيم المادية، خاصة أنهم يدافعون عن قيمة «الشرف» التي لم يعد لها من مكانة تذكر في الغرب.
وما يحتاج إليه العالم، في هذه المعمعة، هو الاستماع إلى صوت العلماء، في الوقت الذي يصرخ فيه الانتهازيون بملء حناجرهم، ليملأوا الدنيا كراهية. وكان المفكر الراحل محمد أركون يحذّر باستمرار من علمانية جلفاء بلا روح، لا تفصل فقط بين مؤسسات الدولة والدين، بل إنها تطرد أي معرفة بالأديان من رحمة مدارسها. وطالما اقترح الرجل تدريس مادة «تاريخ الأديان»، بحيث يتعلم من خلالها التلميذ الفرنسي، تاريخ العقائد ومسار الديانات، ويتزود بمعرفة علمية وموضوعية، تساعده على فهم الآخرين المختلفين الذين يشاركونه الوطن. لكن التغيير لا يأتي بالنصح ولا بالوعظ وإنما بالتجربة، وأحياناً يكون ثمنه غالياً.
تغنت العلمانية الفرنسية باستمرار باستقلاليتها التامة والناجزة عن الكنيسة الكاثوليكية التي كلفت نضالاً وحروباً، وتعززت بالرسم الكاريكاتوري، الذي اعتبر أحد الأسلحة في مواجهة رجال الدين وسطوتهم، وإضعاف نفوذهم وقتل هيبتهم. لكن بعض رسامي «شارلي إيبدو» حاملة لواء قداسة حرية التعبير، والكاريكاتور تحديداً، يعترفون هم أنفسهم، أن ما قبل الإنترنت ليس كما بعده، وأنهم يستغربون التحولات. فالرسم الواحد لم يعد يراه الفرنسيون وحدهم، ويستغرق أياماً وشهوراً، ليصل إلى غيرهم، بل بات يتوزع على سكان الأرض بكبسة زر، وردود الفعل حين تصبح عالمية، تصعب السيطرة عليها. فالمحلية انكسرت إلى غير رجعة، والاعتبارات حتى في الفنون تغيرت، وإن لم يعجب ذلك الفنانين.
ردت فرنسا على ما تتعرض له من هجمات إرهابية، بإغلاق عشرات المساجد والجمعيات والمدارس، التي تعتقد أن متطرفين يستغلون نفوذهم لنشر أفكار متشددة عبرها.
قد يظلم البعض، لكن الواضح أن ثمة ثغرات أمنية ومخابراتية. وهناك أيضاً تراخٍ قديم، وتأخر في معالجة مشكلات المهاجرين، والتعامل مع المسلمين كمواطنين لهم أسلوب في العيش، من حقهم أن يمارسوه طالما أنه لا يمس الآخرين. كل هذا سيحتاج إلى وقت ومعاناة مع دين لا يزال حديثاً وجوده في أوروبا.
إلى حينه، فالخوف هو من «صندوق باندورا» الذي فتح، فجأة، وخرجت منه كل شرور العالم، وكان من الحكمة أن تعالج الأمور باستقلاليتها.
العمليات الإرهابية، موضوع أمني سياسي وإن تستر بغطاء الدين. فلم نعرف تنظيمات تنشط أو مجموعات تخطط لجرائم منسقة، من دون أن يؤمن لها المال والخلفية الداعمة. أمر بالتأكيد لا صلة له بالمأكولات الحلال التي أزعجت معالي الوزير، ولا بحجاب المسلمات الذي يعني كلا منهن بشخصها وخيارها، ولا يرتبط بالفتيات اللواتي يأتين إلى درس السباحة الإلزامي بالبوركيني «المايوه الشرعي»، ولا حتى بما يتوجب أن أسمي ابني لو ولد في فرنسا، أو في أدغال أفريقيا.
الإرهاب جريمة، والمجرمون، وعصاباتهم يعاقبهم القانون ويتتبع الخيط ليصل إلى مَن خلفهم. أما قضية التعايش بين المسيحيين والمسلمين في فرنسا والعالم، فهي مسألة حضارية، من الحساسية بحيث يليق بها أن تسند لأهل المعرفة وأرباب الحكمة، بعيداً عن المتسلقين ومبارزات عشاق الخطب الرنانة.