الياس حرفوش
صحافي وكاتب سياسي لبناني، عمل مسؤولاً في القسم السياسي في مجلتي «الحوادث» و«المجلة»، وكان له مقال أسبوعي فيهما. كما عمل في صحيفة «الحياة» التي شارك في إدارة تحريرها، وكان كاتباً ومشرفاً على صفحات «الرأي» فيها. أجرى العديد من المقابلات مع شخصيات عربية ودولية، وشارك في حوارات ومقابلات تلفزيونية معلقاً على أحداث المنطقة.
TT

انتخاب رئيس لـ«القرية الكونية»

كل مواطن في «القرية الكونية» يشعر أن له الحق في أن يكون ناخباً، وأن يدلي بصوته في انتخابات الرئاسة الأميركية. انتخابات تترك أثرها على حياة 8 مليارات من سكان العالم، على قرارات دوله وسياسات حكامه. لذلك ليس مستغرباً أن يكون العالم كله مشدوداً إليها ومهتماً بنتائجها. لا يتعلق الأمر فقط بكون المعركة هذه المرة هي بين رئيس استثنائي، هو دونالد ترمب، الذي أحدث انقلاباً تاريخياً في نمط القيادة الذي تعارف عليه الرؤساء الأميركيون، وفي علاقات هذه القيادة مع الحلفاء والخصوم على السواء، وبين جو بايدن، المرشح المنافس الذي يعود إلى الحلبة حاملاً معه كثيراً من إرث باراك أوباما. إنه يعود إلى حجم القوة السياسية والمالية والعسكرية التي تتمتع بها الولايات المتحدة، والتي تسمح للرئيس الأميركي بأن يتحول بنتيجة الانتخابات إلى قائد أعلى للقوات الأميركية، يحمل في جعبته ذلك الزر النووي القادر على إحداث تغيير كبير في مصائر كثيرين من سكان الأرض.
مواطن «القرية الكونية» يحسد الناخب الأميركي على ذلك الصوت الذي يضعه في الصندوق أو يرسله عبر البريد، والقادر على إحداث مثل هذا التغيير، الذي يتجاوز حدود الولايات المتحدة إلى جهات العالم الأربع، تلك الجهات التي لا يعرفها أكثرية الأميركيين، ولا يحلمون أن تطأها أقدامهم في أي يوم.
لا يملك أي ناخب في أي بقعة من العالم مثل هذا الوزن لصوته الانتخابي، بحجم الوزن الذي يحمله صوت الناخب الأميركي. ولأن الأمر على هذه الأهمية، نسمع كل 4 سنوات عن الحملات التي تقوم بها جهات خارجية، لها مصالح مباشرة تتصل بنتيجة الانتخابات الأميركية، للتأثير على أصوات الناخبين الأميركيين، وعن محاولات التدخل في العملية الانتخابية بطريقة أو بأخرى. سمعنا مثل هذا الأمر قبل 4 سنوات، فيما تردد عن التدخل الروسي لمصلحة دونالد ترمب، والذي شغل المحققين الأميركيين وأعضاء الكونغرس لفترة غير قليلة من الزمن، إلى أن انتهى الأمر إلى أنه بقي تدخلاً مزعوماً من دون إثبات يدعمه. وها نحن نسمع اليوم أيضاً، من خلال تقرير صحيفة «نيويورك تايمز»، عن محاولات روسية وإيرانية لاختراق سجلات الناخبين الأميركيين وإرسال إيميلات مزورة لهم تهدف إلى خلق جو من التشكيك في صحة العملية الانتخابية وسلامة نتائجها. ومع أن الأمر لا يصل إلى حد القدرة على التأثير في النتائج، كما ذكر مدير الاستخبارات الوطنية جون راتكليف ومدير «إف بي آي» كريستوفر راي، فإن مجرد الكشف عن المحاولات يعطي فكرة عن الأهمية التي تعلقها روسيا وإيران، كما كثير من دول العالم، على نتائج هذه الانتخابات.
تغيير القيادة في واشنطن لا يشبه تغييرها في أي مكان آخر. يكفي لتقدير أهمية ذلك مراجعة السنوات الأربع من ولاية دونالد ترمب، وما أحدثته في خريطة العلاقات الدولية. سواء تعلق الأمر بالعلاقات الأميركية - الروسية، أو علاقات واشنطن مع بكين وبيونغ يانغ، فضلاً عن الدور الأميركي في منطقة الشرق الأوسط، والتغييرات الاستراتيجية الحاصلة فيه بفضل مبادرات الرئيس ترمب المتعلقة بالرد على الخروقات الإيرانية بإنهاء الالتزام الأميركي بالاتفاق النووي مع طهران، ورفع العلاقات مع إسرائيل إلى مستويات تاريخية، والتوسط لإعلان دول عربية إقامة علاقات دبلوماسية معها.
لم يبالغ الرئيس السابق باراك أوباما عندما وصف هذه الانتخابات الأميركية بأنها «أهم انتخابات في حياتنا». فبسبب حجم التحولات التي حصلت في ظل إدارة الرئيس ترمب تصبح احتمالات التغيير مثيرة للاهتمام والقلق في آن واحد، ومثلها طبعاً احتمال احتفاظ ساكن البيت الأبيض بعنوان إقامته لـ4 سنوات جديدة، وهو ما يثير قلق كثيرين يشعرون أنهم تضرروا من سياسات ترمب. ولا يقتصر الأمر على البلاد التي أطلقت «الفيروس الصيني» ولا على البلاد التي أطلقت ميليشياتها وأسلحتها تزرع عدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، بل يصل الأمر إلى حلفاء تقليديين لواشنطن، في الاتحاد الأوروبي وضمن الحلف الأطلسي، الذي يتخوف كثيرون من المراقبين أن ينتهي الأمر بترمب إلى الانسحاب منه، إذا قدرت له ولاية ثانية، بعد الحملات التي شنها في أكثر من مناسبة على الحلفاء المتهمين بالتقصير عن تسديد التزاماتهم المالية بما تفرضه حاجاتهم الدفاعية.
في علاقاته مع الحلفاء الأوروبيين، أطلق ترمب شعاراً اعتبر نقيضاً للقواعد التي قام عليها الحلف العابر للمحيط الأطلسي منذ الحرب العالمية الثانية. كان شعار «أميركا أولاً» يدغدغ مشاعر الأميركي العادي الذي لا يشعر بالحاجة لحماية أمنه الداخلي إلى إنفاق أمواله على تدخلات وأحلاف خارجية. لكن هذا الشعار أقلق الحلفاء التقليديين في عواصم مثل باريس وبرلين، فيما بقيت لندن في منأى عن القلق بسبب العلاقة الخاصة بين ترمب ورئيس حكومتها بوريس جونسون، كما بفضل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، الذي يتيح علاقة أميركية - بريطانية خاصة.
صارت العبارة التي أطلقها جون كيندي في الساحة التي تحمل اسمه في برلين بالألمانية قبل 60 سنة «أنا من برلين» شيئاً من ذكريات الماضي. كان كيندي يقصد رفع شعار إعادة توحيد المدينة في وجه الجدار الذي كان يقسمها آنذاك. اليوم ينظر رئيس لجنة الشؤون الخارجية في «البوندستاغ» الألماني، نوربرت روتغين، وأبرز المرشحين لخلافة أنجيلا ميركل في العام المقبل، إلى عبارة كيندي بشيء من الحسرة، ولا يجد الدعم الذي تتوقعه ألمانيا من حليفها التقليدي. يقول روتغين؛ في السنوات الأربع من ولاية ترمب أعادت واشنطن النظر بشكل جذري في كل شيء؛ بقاء الحلف الأطلسي، ثبات السياسة الخارجية الأميركية. لقد كانت تحولات لم نشهد مثلها منذ الحرب العالمية الثانية.
سوف ينتظر الألمان وسائر الأوروبيين، كما غيرهم من سكان الأرض، على باب نتائج الانتخابات الأميركية صباح الرابع من الشهر المقبل، ويحلمون بوصول الرئيس الذي يرضي أحلامهم ويحقق مصالحهم. إنه أوضح دليل على أن الرئيس الذي سيخرج اسمه من صناديق الاقتراع لن يكون رئيساً لأميركا وحدها وللمواطنين الأميركيين الذين انتخبوه. إنه سيكون رئيساً لمن لا صوت لهم ولا علاقة بتلك الانتخابات. سيكون رئيساً لـ«القرية الكونية».