اشتعل من جديد الصراع «المتجمد» ما بين أرمينيا وأذربيجان على نحو بالغ الشدة. وما قد يبدو من وجهة نظر بعض المراقبين الغربيين أنه حالة من حالات المصادمات الطفيفة التي لا تثير الكثير من الغبار في زاوية نائية من العالم، يحمل في حقيقة الأمر الكثير من التبعات والتداعيات ذات الآثار الكبيرة على أرض الواقع، لا سيما من منطلقات الأمن الإقليمي، وأسواق الطاقة العالمية، والطموحات السياسية الكبيرة لاثنين من كبار اللاعبين السياسيين: الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وأيضاً الرئيس التركي.
يتمحور ذلك الصراع –الذي يرجع بتاريخ نشأته الأولى إلى ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق– حول جيب صغير تقطنه طائفة من الأرمن داخل أذربيجان المجاورة ويُعرف باسم إقليم «ناغورنو كاراباخ». ويبلغ تعداد سكان تلك الجمهورية المُعلنة بصفة ذاتية وذات الطبيعة الجبلية (والتي لم تنل الاعتراف الرسمي حتى من أرمينيا الراعية المباشرة لها) ما يقرب من 150 ألف نسمة ممن يحملون الطابع العسكري بدرجة لافتة للأنظار. ولقد فقدت أذربيجان السيطرة الكاملة على ذلك الإقليم خلال الصراع الدامي الذي اندلع حوله في تسعينات القرن الماضي وأودى بحياة 30 ألف شخص، وعلى الرغم من المساجلات والمداولات المستمرة منذ ذلك الحين، لم تتمكن أذربيجان من بسط السيطرة مجدداً على ذلك الإقليم سواء بالطرق الدبلوماسية أو الوسائل العسكرية.
خلال فترة شَغلي لمنصبي في منظمة حلف شمال الأطلسي قمت بزيارة كلا البلدين في غير مناسبة لعدة مرات. وكانت معالم الكراهية وانعدام الثقة البالغة تخيّم تماماً على أجواء الحوار هناك. فلقد كان وزيرا الدفاع لدى كلا الجانبين في ذلك الوقت يكنّ كل منهما قدراً كبيراً من الكراهية للآخر. ورغم أن البلدين من الشركاء غير الأعضاء في منظمة حلف شمال الأطلسي (وهناك وحدات عسكرية محدودة تابعة لكلا البلدين ضمن قوات حلف الأطلسي المنتشرة في أفغانستان)، فإنَّ كل ما أراده الرجلان هو الإعراب الصريح عن ازدواجية الطرف الآخر وفساده. ومما يؤسَف له بشدة أن كل منهما كان يدير دفة الرأي العام الداخلي تجاه الدولة المجاورة في إقليم القوقاز. ولم تكن تبدو لدى أي طرف منهما الرغبة الحقيقية في التنازل عن شبر واحد من الأرض، سواء كان ذلك بالمعنى الحرفي أو المجازي، أو خلافه.
وعلى مدى السنوات الأربع التي أمضيتها لدى منظمة حلف شمال الأطلسي، خاضت أذربيجان عدة مغامرات عسكرية ذات طبيعة فاترة تلك التي تمكّن الأرمن من إيقافها بكل سهولة. وخلصت تقديرات الاستخبارات لدينا إلى أن الأرمن كانوا على يقين من الفوز في حالة إذا ما ساءت الأمور أكثر من ذلك. وكان الاتحاد الروسي يواصل تزويد كلا الجانبين بالأسلحة والتدريب، وكان التأثير الدبلوماسي الروسي ملطفاً لحدة التوترات إلى درجة ما. ولكننا ندرك تماماً أن الأجواء تكون ملبدة بالغيوم وتنذر بسوء الأحداث عندما نجد السيد فلاديمير بوتين يعتمر عباءة صناع السلام.
وخلال التصعيد العسكري الأخير، وعلى النحو المعتاد، يزعم كلا الطرفين أن الطرف الآخر هو من قام بالهجوم أولاً. ولقد وقع تبادل لإطلاق النار بين الطرفين قبل ذلك في شهر يوليو (تموز) من العام الجاري، ذلك الذي أسفر عن سقوط نحو 12 صريعاً من الأذريين (أغلبهم من الجنود). في حين تصل الخسائر البشرية في التصعيد الأخير إلى نحو 100 قتيل بين الجانبين. وقبل نحو عشرة أيام، قام جانب منهما بتعبئة القوات وإعلان الأحكام العرفية في البلاد. وبعد هذا ذكرت أرمينيا أنها فقدت طائرة مقاتلة قد أسقطتها طائرة مقاتلة تركية أخرى من طراز (إف 16)، ونفت تركيا هذا.
وهناك نقص واضح في أي تحرك حقيقي من جانب الدول الخارجية المعنية بالأمر من أجل التدخل والتفاوض على وقف جديد لإطلاق النار بين البلدين، وهو الأمر الذي ساعد في تهدئة الأوضاع في غير مناسبة ماضية، وإن كان بصفة مؤقتة على أقل تقدير. وأسفرت الجهود الدبلوماسية الماضية عن وساطة ما تُعرف بمجموعة «مينسك»، بالإضافة إلى فرنسا، وروسيا، والولايات المتحدة في الصدارة، غير أنها جهود باءت بالفشل في عام 2010.
والنقطة الخطيرة بصفة خاصة في ذلك التصعيد العسكري الأخير تتمثل في أن روسيا وتركيا تدعمان وبقوة مختلف أطراف الصراع. الأتراك يبغضون الأرمن كثيراً ويؤيدون الأذريين. (في أرمينيا، لا تزال ذكريات مذابح الأرمن على أيدي الأتراك العثمانيين منذ أكثر من قرن من الزمان حاضرة وماثلة، ومن العوامل المهمة في التفكير القومي). فضلاً عن أن هناك معاهدة دفاعية رسمية وعلاقات عسكرية جيدة تربط ما بين روسيا وأرمينيا.
ولنأخذ في اعتبارنا أن البلدان الأخرى المجاورة للتصعيد العسكري الدائر هناك هي جورجيا غير المستقرة سياسياً على الدوام، فضلاً عن إيران وهي من أشد أعداء الولايات المتحدة في المنطقة. ناهيكم بأن أذربيجان الغنية بموارد النفط –وهي تملك احتياطياً نفطياً مؤكداً يجاوز 7 مليارات برميل، مع كميات هائلة من الغاز الطبيعي– تملك خطوط الأنابيب المعرّضة للمخاطر والتي تمتد على مسافة لا تبعد أكثر من 10 أميال عن الحدود مع أرمينيا.
وفي حين أنني كنت موجوداً بصفتي الرسمية في المنطقة في غير مناسبة سابقة عندما كانت التوترات على أشدها، إلا أنني أشعر باختلاف خطير في الأوضاع هذه المرة. الولايات المتحدة منشغلة تماماً بمجريات الانتخابات الرئاسية القريبة. وتقف كل من روسيا وتركيا على طرفي النقيض من مختلف الصراعات الدائرة في المنطقة (كما هو مشهود للعيان في سوريا وليبيا أيضاً). والاتحاد الأوروبي مشغول للغاية بالفصول الأخيرة من مسلسل «بريكست» البريطاني ومغادرة الاتحاد، فضلاً عن التوترات المتصاعدة في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط بين اليونان وتركيا. ويقول حلف شمال الأطلسي –الذي لا يزال يحافظ على شراكة قائمة مع أرمينيا وأذربيجان: «ينبغي على كلا الجانبين وقف الأعمال العدائية بصفة فورية، ولا يوجد حل عسكري محتمل لمثل هذا الصراع»، ولكن من دون طرح أي اقتراح ملموس لحل الأزمة الراهنة ما بين البلدين.
ويبدو أنَّ فرص التسوية السلمية ما بين البلدين قاتمة للغاية. ومن شأن النسخة الجديدة من مجموعة مينسك التي تشتمل على الحضور التركي، أن تشرع في خطوات بناء الثقة من أجل الوصول إلى اتفاق في خاتمة المطاف. ويملك الرئيس فلاديمير بوتين علاقات وثيقة مع زعماء كلا البلدين، رغم أن روسيا تميل وبقوة صوب المسيحيين الأرثوذكس في أرمينيا. وربما يمكن للولايات المتحدة، وروسيا، وتركيا –من خلال العمل المشترك– النجاح في إقناع طرفي الصراع بالابتعاد عن المسار الكارثي الذي يتحركون عليه.
وقد تبدأ تلك المقاربة في العودة الرمزية للأرض إلى أذربيجان، مع التزام كلا الجانبين بالتخلي عن استخدام الأسلحة النارية والمتفجرات (تماماً كما فعلت الصين والهند بعد الصراع الوجيز الذي جمع بينهما على خط السيطرة الفعلي المتاخم لجبال الهيمالايا)، فضلاً عن المقاربة المتدرجة المعنية بإعادة افتتاح الحدود بين البلدين. وباعتراف الأطراف المعنية كافة، فإنه لا شيء مما ذكرناه آنفاً يبدو مبشراً بخير في المستقبل القريب.
يقول الكاتب الصحافي الإنجليزي توماس دي وال، في كتابه الماتع «الحديقة السوداء» الذي يفنّد فيه جذور الصراع ما بين أرمينيا وأذربيجان، في الصفحات الختامية من كتابه: «من شأن أي تسوية عادلة لصراع إقليم ناغورنو كاراباخ أن تستلزم قدرها المعتبر من التنازلات المؤلمة من كلا الجانبين، كما سوف تتطلب تحقيق التوازن الجوهري ما بين المبادئ المتعارضة بينهما». وفي اللحظة الراهنة، تبدو مثل تلك التنازلات أبعد ما تكون عن أرض الواقع من اندلاع حرب محدودة النطاق، ولكنها ذات تداعيات كبيرة ومحتملة.
- بالاتفاق مع «بلومبرغ»