حسين شبكشي
رجل أعمال سعودي، ومستشار اقتصادي لعدد من الشركات الخليجية الكبرى، وعضو مجلس إدارة ورئيس مجلس إدارة في عدد من الشركات السعودية والأجنبية. نشر العديد من المقالات في مجالات مختصة، وفي صحف ومجلات عامة في العالم العربي. اختير عام 1995 «أحد قادة الغد» من قبل «المنتدى الاقتصادي العالمي» في دافوس. أول رجل أعمال سعودي وخليجي ينضم إلى «منتدى أمير ويلز لقادة الأعمال».
TT

طبقية!

هل الشرُّ غريزة فطرية في الإنسان أم أنه مسألة مكتسبة؟
سؤال قديم حير الفلاسفة وعلماء النفس والاجتماع لسنوات طويلة جداً. والشر له أوجه متعددة ومختلفة مثل الكراهية والعنصرية والتنمر التي تفرزها المواقف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والدينية بمختلف أشكالها وحدتها. والمتابع للمشاهد الملتهبة في كثير من المدن الأميركية نتيجة المشاكل العنصرية ضد الأميركان من أصول أفريقية يجد أنها حالة متصاعدة ومقلقة جداً، وسيكون لها تداعيات استثنائية جداً على ما يبدو.
وهذه المشكلة العنصرية ليست وليدة اللحظة، ولكنها إرث قديم وثقيل جدا أدى في لحظة زمنية معينة إلى قيام حرب أهلية مدمرة كادت تؤدي إلى تقسيم كبير بين الولايات الشمالية ومثيلاتها في الجنوب. ومنذ أشهر قليلة صدر كتاب في غاية الأهمية يغوص في أعماق هذا الموضوع المعقد من تأليف الكاتبة الصحافية الأميركية إيزابيل ويلكيرسون الحائزة جائزة «بوليتزر» العريقة للصحافة، والكتاب جاء بعنوان «الطبقية: أصول خلافاتنا». الشيء اللافت للنظر أن المؤلفة لم تستخدم في كتابها قط لفظ العنصرية، لأنها تناولت الموضوع من وجهة نظر تقسيم مجتمعي تعامل مع الشق العنصري بأنه تمييز طبقي بامتياز، وأبرزت الجوانب المؤيدة لنظريتها في الشؤون السياسية والاقتصادية والتشريعية والتعليمية بشكل مدهش ومقنع للغاية. وإذا أخذنا هذا التفسير الجديد والمختلف والصادم لمسألة العنصرية، فسيكون من الممكن تفسير كثير من المواقف السلبية والبغيضة حول العالم. ستبرز لنا مواقف تفسر نفسها «ذاتياً» مثل حالة جنوب أفريقيا التي كانت المثل الأشهر للطبقية، وقد أظهر ذلك بشكل جلي ومؤلم الروائي الجنوب أفريقي الأشهر آلان باتون الذي أبرز تلك الطبقية البغيضة في روايته الخالدة «ابكي يا أرضي المحبوبة» وتوسع في الفكرة نفسها في رواية أخرى بعنوان «آه ولكن بلادكم جميلة»، وهذا المناخ هو الذي تمخض عنه نيلسون مانديلا، وهو الذي قضى 27 عاماً في زنزانة انفرادية وعند خروجه لتسلم رئاسة البلاد لم يخرج منتقماً وغاضباً، بل طبق النهج المحمدي على صاحبه أفضل الصلاة والسلام بتنفيذ عملي لفكرة اذهبوا فأنتم الطلقاء.
اختار مانديلا السلم الأهلي والسلام. عكس الخميني مثلاً الذي جاء إلى إيران عبر ثورة شعبية، وحضرت معه دوافع انتقامية شديدة ضد النظام السابق وعنصرية بغيضة بحق العراق العربي وسائر دول الخليج العربي، التي تعدى عليها بشتى الأشكال تحت شعار خبيث هو «تصدير الثورة»، وكانت من أسوأ تبعيات هذه الدوافع الخمينية دخوله في حرب مدمرة مع عراق صدام حسين، استمرت لفترة تجاوزت الثماني سنوات، وعندما عرض على الخميني مشروع وقف إطلاق النار بين البلدين وإعلان السلام، علق قائلاً «إنه يتجرع ذلك الأمر مثل تجرعه لكأس السم».
قبل نيلسون مانديلا كان المهاتما غاندي يقاوم وبسلمية آسرة آفة الاستعمار البريطاني من جهة، وآفة الطبقية المقننة باسم الدين الهندوسي في المجتمع الهندي، وهي معركة ملتهبة على جبهتين في آن واحد، ولكنه تمكن من تأسيس دستور مدني يساوي بين الجميع أقره تلميذه رئيس الوزراء الأول للهند بعد الاستقلال جواهر لال نهرو. يعتبر علماء السياسة كتاب «الأوراق الفيدرالية» هو المرجعية الأساسية لفهم مقاصد الآباء المؤسسين للجمهورية في أميركا، والتي أدت الحوارات بينهم بعد ذلك إلى كتابة الدستور الأميركي الباهر والمميز. ويبرز في هذا الكتاب رأي أليكساندر هاميلتون المثير للجدل والذي يقول فيه: «إن الغاية الأساسية للدستور يجب أن تكون حماية البلاد ليس من طغيان الحاكم فحسب، ولكن الأهم حماية البلاد من طغيان الأغلبية»، فالأغلبية ممكن أن «تخطئ» باختيارها، وعليه فمن الضروري أن يكون الدستور والنظام النابع منه قادرين على إصلاح هذا الخطأ المقصود بالقانون.
إيزابيل ويلكيرسون تمكنت في كتابها الأخير من ربط نظام الطبقية الموجود في أميركا بألمانيا النازية والهند (أصل العرق الآري) لتثبت أن العنصرية أساس الكراهية، وأنها أشبه بالفيروس العابر للقارات والثقافات والحدود والأديان، وهي أصل الشر ومع الإنسان منذ بداية التاريخ. هناك من ينكر وجود العنصرية أو على أقل تقدير يتعامل معها بقفازات من حرير وريش نعام، وهناك من يعترف بالمشكلة ويواجهها. وما يحدث في أميركا هذه الأيام مثير للاهتمام، لأن التاريخ أكد لنا أن ما يحدث فيها عادة لا يبقى داخل حدودها.