د. حسن أبو طالب
كاتب مصري، يكتب في «الشرق الأوسط» منذ 2019. يعمل حالياً مستشاراً بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وعضو الهيئة الاستشارية العلمية للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، مُحكم ومستشار أكاديمي في العديد من مراكز البحوث العربية والدولية، وكاتب صحافي في جريدة «الأهرام». عمل سابقاً رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة دار المعارف»، ورئيس تحرير «مجلة أكتوبر» الأسبوعية، ومدير «مركز الأهرام الإقليمي للصحافة»، ورئيس تحرير «التقرير الاستراتيجي العربي» الذي يصدره مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، ونائب رئيس تحرير «الأهرام».
TT

إسرائيل وهندسة جديدة للقيادة الفلسطينية

أعادت الجدل حول التصريحات المنسوبة إلى السفير الأميركي لدى إسرائيل حول تفضيل قيادة فلسطينية جديدة، رغم نفيها، إلقاء الضوء على قضية الخلافة السياسية في المؤسسات الفلسطينية الثلاث التي يرأسها محمود عباس، منذ عام 2005، حين انتُخب رئيساً للسلطة بعد وفاة الرئيس الرمز ياسر عرفات.
مضمون تصريحات السفير الأميركي التي تم نفي جزء منها، يجب رفضه من حيث المبدأ؛ لكونه يعبر عن تدخل سافر في الشأن الفلسطيني، وهو ما ركَّز عليه بيان السلطة الوطنية الفلسطينية؛ لكن عملياً تظل قضية الخلافة السياسية مطروحة، باعتبارها تخصُّ مصير الشعب الفلسطيني كله في الداخل وفي الخارج، وتخصُّ مصير المؤسسات الفلسطينية المُناط بها النضال من أجل حقوق الفلسطينيين غير القابلة للتنازل.
وهي قضية مطروحة منذ سنوات عدة، وشهدت زخماً من حيث النقاش الفلسطيني؛ خصوصاً داخل «فتح» في الفترات التي تعرض فيها الرئيس عباس ذو الـ85 عاماً لوعكة صحية استدعت دخوله أحد المستشفيات الخاصة في رام الله، لإجراء فحوصات طبيه طارئة، وهو ما حدث في مطلع يناير (كانون الثاني) هذا العام.
الوثيقة الأساسية التي تحكم عمل السلطة الوطنية الفلسطينية تحدد خطوات معينة لاختيار مسؤول فلسطيني جديد يقود السلطة عند الضرورة، تتمثل في تعيين رئيس السلطة التشريعية لمدة شهرين، تجرى خلالهما الانتخابات الرئاسية. وفي حركة «فتح» هناك أيضاً آليات تحدد كيفية اختيار الرئيس الجديد، وفي «المنظمة» يتطلب الأمر موافقة المجلس الوطني. فمن حيث الوثائق الأمور واضحة ومحددة، أما من حيث الواقع فالأمر مرتبك تماماً. فقد تم إلغاء المجلس التشريعي عام 2018؛ لكون رئيسه من حركة «حماس»، ولم تُجرَ أي انتخابات تشريعية جديدة، وبالتالي أصبح وجود رئيس المجلس التشريعي رئيساً مؤقتاً انتقالياً للسلطة الوطنية الفلسطينية غير ممكن. والمطروح أن تختار «فتح» أحد أعضاء لجنتها المركزية رئيساً مؤقتاً، وتقر هذا الاختيار «منظمة التحرير»، وتُصادق عليه المحكمة الدستورية.
وهناك من يطرح أن يتولى رئيس المحكمة الدستورية هذا المنصب انتقالياً، أما «حماس» فترى وجوب استشارتها فيمَن يجب أن يكون رئيساً انتقالياً. والأمور ليست واضحة بعد، ما يفتح المجال أمام منافسات شخصية من دون أن تحددها قواعد دستورية أو قانونية؛ بل موازين القوى على الأرض.
المؤسسات الفلسطينية الثلاث - على هذا النحو - تواجه تعقيدات بدرجات مختلفة عند اختيار رئيس جديد حين يتحتم التغيير. ومن خلال المناقشات الداخلية بين الفلسطينيين أنفسهم يتَّضح وجود إدراك للمشكلة وتعقيداتها، ولكن من دون إثارة القضية علناً. الأمر بالنسبة لإسرائيل مختلف إلى حد كبير، وكثيراً ما يخرج مسؤولون عسكريون سابقون ومسؤولو استخبارات وأيضاً سياسيون بالحديث علناً عن الموقف الإسرائيلي من مصير السلطة في لحظة التغيير المنتظرة، وحالة الأمن في مناطقها وفي غزة، والاستعدادات التي يجب على إسرائيل اتخاذها. وفي ظل هذه النقاشات العلنية تظهر مقارنات بين الشخصيات الفلسطينية المحتمل أن يكون لها دور مهم في الخلافة السياسية الفلسطينية، ومكامن القوة والضعف لكل منهم، ومن هم الأقرب إلى إسرائيل ومن هم الأبعد.
ومن أهم هذه الشخصيات التي يتداولها النقاش الإسرائيلي سلباً أو إيجاباً؛ ماجد فرج رئيس جهاز المخابرات العامة، وحسين الشيخ وزير الشؤون المدنية، وجبريل الرجوب الرئيس السابق لجهاز الأمن الوطني، ومحمد دحلان، الرئيس السابق لحركة «فتح» في غزة الموجود في الخارج، ومحمود العالول، المسؤول الثاني في «فتح»، وناصر القدوة الذي كان يشغل عدة مناصب عليا في الأمم المتحدة، وصائب عريقات، ومحمد أشتية رئيس الحكومة الحالي، أو سلام فياض الرئيس السابق للحكومة، ومسؤولون آخرون في «فتح».
الحديث عن الشخصيات المؤهلة أو المحتملة يتصل أيضاً بحديث عن المشاهد والاحتمالات الممكنة، وثمة اتفاق ضمني إسرائيلي على أن وجود الرئيس عباس على قمة قيادة العمل الفلسطيني بأبعاده التنظيمية المختلفة، ورغم كل الانتقادات التي يوجهها الإسرائيليون والأميركيون له ولسياساته ومواقفه؛ لا سيما الأخيرة الرافضة التجاوب مع «صفقة القرن» الأميركية رغم الضغوط المتتالية، هو وجود مهم يمنع الانزلاق إلى مسارات عنف تضر بحالة الاستقرار النسبي القائمة.
واستطراداً، فإن لحظة التغيير في القيادة الفلسطينية قد تكون مُحمَّلة وفقاً للمناقشات الإسرائيلية؛ أولاً بفوضى نتيجة صراعات بين شخصيات نافذة؛ لكن لا يمكنها ملء الفراغ القيادي المنتظر، وثانياً بأن يحدث ارتباك مؤقت قد يصاحبه اتفاق بين عدد من النافذين على توزيع المناصب القيادية في السلطة و«فتح» و«منظمة التحرير»، وبما يشكل قيادة جماعية فلسطينية مؤقتة قد تتطور إلى قيادة فردية لاحقاً، ولكن بعد مرور زمن معقول، وثالثاً بأن يتم تجنب الصراع المباشر بين تلك الشخصيات النافذة، ويُتفق على قبول قيادة مرنة مؤقتة لا تتمتع بغطاء شعبي كبير وليس لها أذرع قوة على الأرض، واتصالاتها محدودة مع الجانب الإسرائيلي، إلى أن تمر ضغوط لحظة التغيير، ويُحسم الأمر من خلال تحالفات داخلية أو تدخلات عربية وخارجية.
وفي كل هذه المشاهد يتدخل الإسرائيليون، ولا يعني ذلك بالطبع أن الشخصيات المفضلة إسرائيلياً خاضعون لها أو يأتمرون بأوامرها، أو سوف يقدمون التنازلات الكبرى على حساب الحقوق الفلسطينية، فالمسألة تستند إلى اعتبارات المكسب والخسارة برؤية إسرائيلية، والهدف في كل الأحوال هو ضمان ألا تتأثر المصالح الإسرائيلية أو ينزلق الوضع في الضفة وفي غزة إلى حالة فوضى يصعب السيطرة عليها، أو تختفي تماماً السلطة الوطنية وما يصاحب ذلك من فوضى مؤكدة، وبالتالي يظهر مجدداً دور «منظمة التحرير الفلسطينية»، كما تعود سلطة الاحتلال إلى مسؤولياتها المباشرة بكل ما يعنيه ذلك من تغيير في المعادلات السائدة داخلياً وخارجياً، وهي احتمالات تثير قلق إسرائيل بشدة.
المقارنة بين ما يطرحه الإسرائيليون في قضية شائكة تخص المصير الفلسطيني كله، بغض النظر عن الأسماء والأشخاص والتحالفات الممكنة أو المتصورة، وبين حالة الصمت الرسمي وعدم مناقشة الأمر في المؤسسات الفلسطينية نفسها، وغياب الحرص على وضع آليات واضحة لنقل السلطة، واستمرار الانقسام الفلسطيني بين «فتح» و«حماس»، وحتى داخل «فتح» نفسها، وتجميد المصالحة داخلها، وانتظار ما قد يحدث عندما يجِدُّ جديد، كل ذلك بحاجة إلى مراجعة سريعة ومسؤولة. والخطأ الأكبر هنا أن هناك من يفكر ويناقش علناً انطلاقاً من مصالحه الذاتية، وأصحاب القرار والحقوق مغيبون أو لا يعنيهم الأمر تماماً، أو في الغالب الأعم كلٌّ يبحث عن أوراق قوة قد يلجأ إليها في اللحظة المنتظرة، وهنا خطر صدام محتمل بقوة سيضر حتماً بالجميع، فالمصير الفلسطيني أهم من كل هذا.