علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

غوابيه وعبد الناصر واللنبي

ما خلص المؤرخ البريطاني جيمس بار، إليه في مناقشة تقريري الصحافية الفرنسية مريام هاري، أو مريام روزيتا شابيرا (واسمها الأخير يشي بأنها يهودية)، من أن قائل عبارة «ها قد عدنا ياصلاح الدين» هو الجنرال ماريانو غوابيه، وليس الجنرال هنري غورو، يسنده - إلى حد ما - أن الفرقة الثالثة التي هزمت جيش الثورة العربية واحتلت دمشق. وأن غوابيه بالمقارنة مع غورو هو أشد وأعتى منه في صلبيته. فصليبيته يطغى الجانب الثأري عليها لسبب عائلة سلالي.
في كتابه «يوم ميسلون: صفحة من تاريخ العرب الحديث»، استعرض ساطع الحصري، في نهايته مذكرات غوابيه التي نشرتها مجلة «جيوش الشرق» الفرنسية في عددها الخامس الصادر في يناير (كانون الثاني) 1937. وقد قال في خاتمة استعراضه لتلك المذكرات: «يذيّل الجنرال غوابيه هذه المذكرات بحاشية قصيرة، يدوّن فيها بعض ما جال في خاطره من ذكريات وملاحظات، بعد استقراره في دمشق الشام».
من المفيد أن نقرأ وأن نتأمل ما كتبه بهذه المناسبة هذا القائد الذي زعم أنه قاد الحملة العسكرية على دمشق تنفيذاً لقرار عصبة الأمم، بغية تمدين سوريا والسوريين: «أنا في دمشق! إن هذا الاسم كان يمثل لي شيئاً خرافياً عندما كنت أقرأه، في سجلات عائلتي، وأنا بعد في سن الطفولة. إن جان مونغوليه، الجد البعيد لجدتي من جهة أبي لويز كان وقع في الأسر خلال الحروب الصليبية الثانية، سنة 1147، ونقل إلى مدينة دمشق.
إنه كان من السواد الأعظم، ولذلك لم يعامله (السراقون) المعاملة الحسنة التي كانوا يختصون بها الفرسان اللامعين. وأهل دمشق جعلوا منه في ذلك الحين، عبداً يشتغل في أحد المصانع التي يصنع فيها الورق من القطن. فاشتغل جان المسكين هناك شغلاً شاقاً خلال ثلاث سنوات؛ وبعد ذلك فرَّ من دمشق، وتمكن من الالتحاق بالجيش الصليبي، بعد اجتياز آلاف المخاطر. وعندما عاد إلى مسقط رأسه، بعد غياب دام عشر سنوات، أسس أول طواحين الورق التي عرفتها أوروبا.
أو ليست (العدالة العليا) هي التي سمحت لحفيد أسير الحروب الصليبية، أن يدخل المدينة المقدسة، ظافراً منصوراً؟».
في هذا السؤال التقريري، يؤمن غوابيه إيماناً دينياً عميقاً بأن دخوله دمشق ظافراً منصوراً شاءته العدالة الإلهية لإنصاف جده البعيد جان مونغولفيه من دمشق وأهلها الذين استرقوه، لكونه من عامة المحاربين الصليبين. والمعنى الذي حواه هذا السؤال التقريري لا يبعد كثيراً عن المعنى الذي حوته عبارة: ها قد عدنا بإصلاح الدين. والفارق الأساسي بين المعنيين، أن المعنى الأول نحا منحى فردياً وعائلياً سلالياً، وأن المعنى الثاني نحا منحى جماعياً وخلا من زج الإرادة الإلهية في احتلالهم دمشق وأرض الشام.
في مقاله الذي عرضنا فحواه في المقال السابق، يرى المؤرخ البريطاني أن عبارة «ها قد عدنا يا صلاح الدين» المنسوبة إلى الجنرال غورو اكتسبت شهرة بعد أن استعملها جمال عبد الناصر في خطبة بتاريخ مارس (آذار) 1958. وقد أوحى وهو يسوق رأيه هذا أن عبد الناصر سمع بالعبارة بعد زيارته الأولى لسوريا، ورؤيته لضريح صلاح الدين، لأنها - كما قال - كانت تكرر في دمشق كثيراً.
وهو هنا يقصد أن العبارة كانت تردد شفاهة في دمشق، وأنها كانت غير معروفة في مصر. هذه الملحوظة صحيحة فالذين كتبوا عن الثورة العربية الكبرى، وكانوا من شهودها لم يأتوا على ذكرها. الوحيد الذي أتى على ذكرها، وكان معاصراً لتلك الثورة، ولمعركة ميسلون، هو الشاعر العراقي معروف الرصافي في قصيدته «رويدك غورو أيّهذا الجنرال»، وكنت قد عزوت هذا الخطأ في المقال الذي تحدثت فيه عن قصيدته إلى شفاهية الرواية التي قيلت العبارة فيها.
ومن خلال مسح سريع في بعض الكتابات العربية على مختلف اتجاهاتها التي تعرضت للاحتلال الفرنسي لسوريا، في العقود التي تلت معركة ميسلون إلى التاريخ الذي ألقى عبد الناصر فيه خطبته بعد عودته من زيارته الأولى لسوريا، فإنني لم أجد فيها تدويناً لتلك العبارة. سماع عبد الناصر لتلك العبارة هو الذي شجعه أن يتقمص شخصية صلاح الدين الأيوبي، ويتقمص دوره التاريخي في الحروب الصليبية، لكن بنكهة قومية عربية علمانية. ففيلم «الناصر صلاح الدين»، الذي أنتج عام 1963، تضمن إسقاطاً سياسياً وآيديولوجياً مباشراً بأن عبد الناصر هو صلاح الدين المعاصر الذي سيحرر القدس من الاحتلال الإسرائيلي، وأن قوميته السياسية الوحدوية في الماضي كان سلفه فيها صلاح الدين.
هذا الفيلم بدأ الإعداد له عام 1958، بعد عودته من زيارته الأولى لسوريا، وبعد تلك الخطبة المشار إليها آنفاً. وهي الخطبة المعنونة بـ«التفاؤل والأمل» في المجلد الثاني من كتاب «مجموعة خطب وتصريحات وبيانات الرئيس جمال عبد الناصر»، وهو كتاب صدر في عهده في خمسة مجلدات، تضم خطبه وتصريحاته وبياناته من 23 يوليو (تموز) 1952 إلى يونيو (حزيران) 1966. أعدتها مصلحة الاستعلامات في وزارة الإرشاد القومي من دون كتابة مقدمة له، ومن دون ذكر تاريخ الصدور، والكتاب كتاب نافد ونادر.
خطبة «التفاؤل والأمل» تصلح مدخلاً شارحاً لفهم بواعث ذلك الفيلم الدعائي، ومغزاه، ومضمونه السياسي والآيدولوجي. الخطبة كانت خطبة طويلة. وقد ذُكر أنه ألقاها في 20 مارس (آذار) 1958، بعد عودته من دمشق. وعنوانها مستقى من قوله في مفتتح خطبته: «الحمد فلقد عدت من سورية، عدت من الإقليم السوري للجمهورية العربية المتحدة أحمل معي التفاؤل والأمل. والحمد لله، فأنا بينكم هنا في هذا المكان أشعر بالتفاؤل وأشعر بالأمل».
في هذه الخطبة تحدث عبد الناصر عن الحروب الصليبية التي يرجع تاريخها إلى العصور الوسطى، حين كان عالم الغرب المسيحي وعالم الإسلام في ظل تلك الحروب لا يعرف سوى الدولة والمجتمع الدينيين، لا الدولة القومية والمجتمع العلماني أو المدني، من منظور سياسي قومي عربي صرف. وهذا المنظور منظور محدث ومستجد. وتحدث عنها من منظور أحدث وأجّد منه، وهو منظور دولة حديثة الولادة، هي دولة الوحدة بين مصر وسوريا.
واقتصر في تفسيرها على العامل السياسي. فالحملات الصليبية - كما قال - كانت استعماراً تحت اسم الحملات الصليبية، يهدف إلى السيطرة ويهدف إلى التحكم. وانطلاقاً من المنظور الأول قال: «وقد فطن إلى هذا العرب الذين تظلهم فكرة القومية العربية، فقام المسلمون والمسيحيون في جميع أرجاء الأمة العربية يحاربون ويقاتلون، وهم بهذا كانوا يدافعون عن فكرة واحدة. فكرة معروفة، وهي فكرة القومية العربية»، كما قال انطلاقاً من المنظور الثاني: «كانت الوحدة هي الدرع الذي تكسرت عليه موجات الغزاة. وكان التفكك والانقسام هما الوسيلتين اللتين نفذ بهما المستعمر إلينا لكي يخضعنا. حينما كانت الدول العربية متحدة لم تستطع بأي حال من الأحوال أن تخضعها».
وإذا كان تجريده الحروب الصليبية من عاملها الديني مفهوماً، لأنه - كما غيره - يريد أن ينزه المسيحية، ديانة، من أن تكون عاملاً من عوامل اشتعالها، فما ليس مفهوماً أنه جرَّدها من عاملها الاقتصادي، مع أنَّه كان يتحدث عنها بوصفها استعماراً! والحروب الصليبية يتقدم العامل الاقتصادي فيها على العامل السياسي. وقد التفت إلى هذه الناحية مؤلف مصري مجهول الترجمة، اسمه سيد علي الحريري في كتابه «الأخبار السنيّة في الحروب الصليبية» الذي فرغ من تأليفه عام 1899م، إذ قال فيه: «إنه حصل قحط ببلاد أوروبا عدة سنوات مترادفة، نتج فيها مجاعة عظيمة وكثر اللصوص وصارت مدنهم وقراهم لا تتحملهم، لذلك بادروا نحو أراضي المشرق الخصبة».
وما يختلف فيه عبد الناصر عن الدينيين وعن الإسلاميين في حديثه عن الحروب أو الحملات الصليبية في هذه الخطبة، أنه للسبب الذي أومأت إليه ولقومتيه العربية العلمانية، يسلخها من طابعها الديني المسيحي، ويعتبرها ليست سوى استعمار بريطاني فرنسي قديم! كان عليَّ في المقال السابق أن أرجع إلى نص هذه الخطبة التي سهل المؤرخ البريطاني جيمس بار، الرجوع إليها، فلقد ذكر الشهر والسنة التي ألقيت فيهما. وكان سبب توانيَّ في الرجوع إليها أنني اكتفيت بالمعلومة عن السياق الذي وردت فيه العبارة المنسوبة إلى غورو في خطبة عبد الناصر، بما أورده الدكتور عبد السلام حيدر في مقاله الذي شفّه من مقال جيمس بار.
هذه المعلومة التي أوردها هي قوله: «وفي هذه الخطبة تحدث عبد الناصر طويلاً عن صراع العرب مع المستعمر الغربي، وقال عن حادثة نحورو..».
وأقر بأن ما لم أفعله كان خطئاً جسيماً، إذ أني لماّ رجعت إلى نص خطبة عبد الناصر وقرأتها فوجئت أنه قال فيها: «لم تكن مصادفة أبداً حينما وصل الجنرال اللنبي، قائد الجيوش البريطانية إلى القدس وقال: اليوم انتهت الحروب الصليبية. وما كانت مصادفة أبداً حينما وصل الجنرال غورو إلى دمشق إلخ..».
فالعبارة المنسوبة إلى اللنبي زوراً وبهتاناً هي سبب كتابة المقالين السابقين. ولقد أثار دهشتي أن جيمس بار لم يتوقف عندها ويعرّضها للنخل والتدقيق في صحتها. ولا لوم على الدكتور عبد السلام حيدر، لأنه لم يتوقف عندها، فهو في مقاله كانَ مجرد ناسخ لمقال جيمس بار.
لكن هل هذا يعني أن الإسلاميين نقلوا العبارة المنسوبة إلى اللنبي من خطبة عبد الناصر، وأنهم جحدوا مصدرها، لأن صاحب الخطبة عندهم هو عدو الله وعدو الإسلام وعميل قوى الاستعمار والصليبية والصهيونية والشيوعية والماسونية... إلخ. وبالتالي ففي ذكر المصدر دفع لهذه التهم المتزاحمة عنه، وتبرئته منها؟
أستبعد أن يكون الأمر كذلك، لأن العبارة المنسوبة إلى اللنبي بدأت تتردد في كتاباتهم في عقود متأخرة، وعبد الناصر قالها في تضاعيف خطبة طويلة ألقاها في عقد قديم. ولأن الإسلاميين في هجائهم لعبد الناصر لا يستندون إلى خطبه، وإنما يكتفون بذكر بعض العبارات الذائعة منها ويهزأون بها. وهذا معناه أنهم لم ينكبوا قط على قراءة خطبه لهجوه السياسي من خلالها.
ومن المؤكد أن العبارة المنسوبة إلى اللنبي قد سمعها عبد الناصر أثناء زيارة دمشق. فهي الأخرى رواية شفاهية متناقلة عند بعض أهلها منذ جيل الثورة العربية الكبرى. وما يؤكد هذا الأمر أن أحد أبناء هذا الجيل، وهو عبد العزيز العظمة، الذي كان بخلاف أخيه ياسر وابنيه نبيه وعادل، كان عثمانياً ومعادياً للثورة العربية الكبرى، هو الوحيد الذي دونها في مخطوطة كتبها في المنتصف الأول من الثلاثينيات الميلادية، مكونة من ثلاثة أقسام، وقد توفي في عام 1943. هذه المخطوطة أخرج قسمها الثالث إلى النور حفيده عزيز العظمة وحققها نجدت فتحي صفوت، وطبعت في كتاب اسمه «مرآة الشام: تاريخ دمشق وأهلها» عام 1987. يقول صاحب الكتاب بعبارة ألفاظها مختلفة: «ثم يقول الجنرال اللنبي قائد الجيش الإنكليزي الشرقي في الحرب العالمية حينما احتل مدينة القدس: إن الحروب الصليبية تنتهي اليوم باسترداد الجنود الإنكليزية للمدينة المقدسة، فتكافئوه بمرتبة المارشالية ولقب اللوردية»! وللحديث بقية.