عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

دافينشي يحرم من الأوسكار

قرار أكاديمية علوم وفنون الصور المتحركة الأربعاء أثار تساؤلات تحتاج دراسات الأنثروبولوجيا الاجتماعية لتناولها. القرار يُخضع أي عمل سينمائي لمواصفات مسبقة قبل ترشيحه لجوائز الأوسكار السنوية التي يتسابق عليها العاملون في الفن السابع من نجوم ومخرجين إلى عشرات تشاهد قائمة طويلة بمهامهم في نهاية الفيلم.
تغيير نظام الأوسكار السادس والتسعين لعام 2024 ذكرني بموضوع إنشاء كلفنا به المعلم في خمسينات القرن الماضي، عندما كان نظار المدارس في الإسكندرية يتوقعون من المعلمين أداءً يقارنونه بمستوى مدارس باريس وروما.
كان التقليد المتبع وقتها أن يعد التلاميذ تقارير في إجازة نصف السنة، في فبراير (شباط)، وبعد العودة للدراسة تناقش مواضيع الإنشاء في الفصل، وكل تلميذ يناقش موضوعه مع زملائه. التوقيت صادف توزيع جوائز الأوسكار فاختارها معلم الفصل كموضوع إنشاء وكل يختار زاوية كالإخراج أو التمثيل أو التصوير وعناصر صناعة السينما، وكانت وقتها من أكبر مصادر الدخل لمصر بعد صادرات القطن.
أسرعت لمكتبة البلدية في شارع منشا باشا بمحرم بك، فلم تكن الإنترنت قد اخترعت، ولم يمتلك أحد جهاز «كومبيوتر»، لأطالع ما كتبته الدوريات العالمية التي كانت المكتبة تشترك فيها وتضعها في غرفة المطالعة، والمراجع عن تاريخ السينما؛ وبنصيحة المعلم توجهت إلى مكتبة المعهد البريطاني (المجلس البريطاني) في شارع فؤاد، وكان ينافس المعهد الفرنسي والمعهد الإيطالي، والمعاهد الأوروبية (سميت مراكز ثقافية فيما بعد)، التي تفتح أبوابها لتلاميذ المدارس، بل وللمارة بلا تمييز في الجنس والعرق واللغة والديانة، قبل أن تفرض السياسة مقاطعة معاهد بلدان أوروبا وما كانت توفره من ثراء ثقافي.
كان عام فوز غريس كيللي (1929 - 1982)، والتي أصبحت فيما بعد أميرة موناكو، بجائزة أفضل ممثلة عن فيلم «بنت الريف»، ومارلون براندو (1924 - 2004) كأفضل ممثل عن دوره في فيلم «عمال الميناء» الذي حصد معظم الجوائز لمخرجه إيليا كازان (1909 - 2003). في المكتبة صادفت الأبلة مارينا معلمة الموسيقى التي كانت تعد للمدرسة مسرحية من الأدب الإنجليزي، واستجوبتني عما أفعل وحدي، فقد كان المعلمون والمعلمات ملتزمين تجاه التلاميذ وسلامتهم داخل المدرسة وخارجها؛ ونبهتني إلى العناصر الأخرى المساهمة في نجاح العمل السينمائي، من موسيقى وملابس وديكور وفنون تشكيلية وتصويرية. نبهتني أبلة مارينا إلى مراجعة مقالات النقاد عن الفيلم الفائز، وساعدتني بشرحها للتعبيرات التي لم أفهمها. المساعدة القيمة دفعتني إلى تناول موضوع الأوسكار والفيلم السينمائي من زاوية استحسنها المعلم، فاختار تقريري كأفضل موضوع على مستوى الفصل؛ وهي من يسبق من؟ أيهما أولاً، الفنان وإنتاجه أم متذوقو فنه من مشاهدين ونقاد؟
الفنان عندما يرسم لوحة، والأديب عندما يؤلف روايته، وصانع الفيلم عندما يتصوره وهو في مخيلته، أليست هي الموهبة المتوهجة بداخله لتتجسد في لوحة أو تمثال أو كلمات رقصت بها ريشته على الورق أو رسمتها كاميرته على الشاشة؟ وهل كان يفكر في الناقد ليفصلها على مقاس مزاجه كما يفعل الترزي؟
ربما صاحب المعرض الفني يفكر فيمن يشتري اللوحات بأفضل الأسعار، فيختار رسومات بعينها من مجموعة الفنان، أو المنتج السنيمائي الذي يستثمر الملايين في فيلم، قد يفكر في نوعية الجمهور وما سيقوله النقاد كي يجني ثمار استثماره فيحاول إقناع المخرج بتعديل لقطات تروّج من جماهيرية الفيلم لكن لا يوجد فنان يحترم موهبته يخضع لهذه الضغوط.
جوائز الأكاديمية بدأت كتقليد في 1929. وبعد عامين كلف النحات الأميركي جورج ستانلي (1903 - 1970) بعمل تمثال رمزي، فصنع فارساً يقبض على سيفه بيديه بأسلوب «الأرت - ديكو» المنتشر في العشرينات والثلاثينات ومطلي بالذهب وسمي جائزة تقدير الأكاديمية. لكن تغير الاسم إلى الأوسكار في 1939 عندما رأت السكرتيرة التنفيذية للأكاديمية ومديرة مكتبتها مارغريت هيريك (1902 - 1976) التمثال فقالت: «إنه يشبه عمي أوسكار»، والتسمية أضافت البعد الإنساني على ما بدا قبل عشرة أعوام كدراسة أكاديمية، لأن الفن ينبع من قلب الإنسان وروحه قبل ذهنه.
فالإنسان البدائي الذي عاش في الكهوف قبل ابتكار اللغة كان يتواصل بالرسم على جدار الكهف، ويعبر عما يجول بخاطره. والإنسان الحديث يعبر بالغريزة في شكل الفن عما بداخله ثم بعدها يأتي المتفرج أو مشتري اللوحة.
وسواء اعتبرنا أن بلليني الأكبر (غايوس بللينيوس سيكنديس 23 – 79 ميلادية) هو أول ناقد بوضعه المقاييس النقدية للفنون الإغريقية، أو سابقه بثلاثة قرون زينوقراط السيقوني (عاش في أثينا في 280 ق.م)، فإن الفنون البابلية والأعمال الفنية المصرية سبقتهما بأربعة آلاف عام، أي الفن أولاً ثم ظهور المتفرج وبعدها مقاييس التذوق النقدي.
ولذا، فاللائحة الجديدة لأكاديمية فنون السينما تثير التساؤلات باشتراطها «التنوع» بضرورة أن تكون الأدوار الرئيسية، وثلث الأدوار الثانوية، لما يسمونها المجموعات غير المعبر عنها، أو تكون القصة أو الحبكة أو فكرة الفيلم تركز حول إنصاف هذه المجموعات المحرومة تاريخياً في تعريفهم.
والأمر لا يقتصر على الشخصية، بل يشترطون اختيار ممثلين من هذه المجموعات، والتي ليست العرقيات غير البيضاء فحسب، بل المجموعات «المهضوم حقها تاريخياً». كما تدخل الأكاديمية تعديلات على لجنة التحكيم، وبدلاً من أن تعتمد على شيوخ المخرجين والممثلين وكتّاب السيناريو والمونتيريات، ومصممي الأزياء والمصورين وكل حسب خبرته، سيكون الشرط الأول أن يكون 30 في المائة من الأعضاء من «المتنوعين»، والمقصود طبعاً عرقياً، ومعاقين، و45 في المائة من النساء، وإن لم يحدد القرار هل نساء طبيعيات بالميلاد أو بالتحول الجراحي، أو اختيارياً بمجرد تغيير الملابس والماكياج؟
قرار الأكاديمية الذي أثار استياء العاملين في صناعة السينما، جاء بعد بضعة أيام من محاصرة جماعة فوضوية يسارية عرفت بـ«تمرد الفناء» لمطابع الصحف في شمال غربي إنجلترا قرب ليفربول لمنع طباعة صحف «التايمز، والصن، والديلي ميل، والديلي تلغراف»، بحجة أنها لا تنشر وجهة نظرهم المدعية أن النظام الاقتصادي لبريطانيا يهدد البيئة بالفناء. أي إخضاع السلطة الرابعة، أهم أعمدة الديمقراطية، لشروطهم المسبقة قبل الطبع.
وكانت الاحتجاجات المماثلة، ليس عن البيئة، بل من جماعات مثل «أرواح السود تهم»، و«نساء» و«أنا أيضاً»، عن اتهامات التحرش الجنسي في هوليوود، وراء اضطرار أكاديمية فنون السينما لإصدار لائحة تثير التساؤل عما إذا كان ليوناردو دافينشي سيرسم لوحاته أو مايكل أنغلو سينحت تماثيله لو اضطروا للالتزام بشروط النقد الفني مسبقاً؟