حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

عندما تنازلوا أمام الخارج مذلولين!

مع نجاح المنظومة السياسية اللبنانية المتحكمة في قتل الدولة وشطب الابتسامة وإلغاء الفرح، دخل لبنان المئوية الثانية على وقع حدثين لافتين؛ أولهما إعلان منظمة الاسكوا أنه قبل نهاية العام الجاري 2020 سيحاصر الفقر 55% من اللبنانيين أي نحو 2,7 مليون مواطن (كانت النسبة 28%)، وسترتفع نسبة الذين سيعانون من الفقر المدقع إلى 23% (كانت النسبة 8%)، ما يعني عجز هذه الشريحة الكبيرة عن تأمين الاحتياجات الغذائية اليومية، ولا نتحدث عن حاجات الاستشفاء!
وثانيهما إعلان المصرف المركزي أنه بعد ثلاثة أشهر سيعجز عن توفير الدعم للسلع الرئيسية، أي الطحين والدواء والمحروقات. وقالت الدراسات الاقتصادية الموثوقة إنه على سعر صرف الدولار 7500 ليرة لبنانية سيعني ذلك 8 آلاف ليرة لربطة الخبز، وستلامس صفيحة البنزين الـ100 ألف ليرة، فيما سترتفع تكلفة الدواء أكثر من 5 مرات بحيث يتجاوز سعر البانادول الـ15 ألف ليرة! ولفهم الواقع بشكل أدق يكفي التوقف أمام الحد الأدنى للأجور وهو 675 ألف ليرة، أي ما يعادل 90 دولاراً ليس إلاّ، ومعروف أن البطالة لامست الـ60% ممن هم في سن العمل!
دوماً ما يتردد، أن لبنان لم يعد يمتلك رفاهية الوقت، والمطلوب كسر الحلقة التي تسببت في عزل البلد وقننت كثيراً إمكانية إدخال العملات الأجنبية إلى لبنان، وبالتالي فإن كل يوم يمر على هذا الحال يزداد الأمر سوءاً. إعلان الإفلاس بعد الانهيار الكبير الناجم عن المنهبة المدبرة، وصولاً إلى جريمة الحرب في تفجير المرفأ عصب الاقتصاد اللبناني، وما نجم عنها من ترميد أجزاء واسعة من بيروت، وبينهما تفشي الجائحة مع الازدياد الكبير في حجم الإصابات اليومية بفيروس «كورونا»، كلها عناصر تضاعف من حجم الشلل العام.. ومن المفترض أن تحث على إيجاد صيغة إنقاذٍ من دون إبطاء!
لا حاجة لـ»الضرب بالرمل»، فالصيغة المطلوبة لا بد أن تنطلق من ضرورة اعتماد سياسات مغايرة لما اعتمدته منظومة الفساد طيلة العقود الماضية، وبالأخص منذ التسوية الرئاسية في العام 2016 التي سلمت قرار البلد إلى «حزب الله» وتابعه «التيار الوطني الحر»، تيار رئيس الجمهورية، ما سلّم بتدخل ميليشيا «الحزب» عسكرياً في دول المنطقة وأبعد منها وفق مقتضيات الأجندة الإيرانية، الأمر الذي تسبب في عزل لبنان الذي تحول إلى منصة عدوان ضد الأشقاء والأصدقاء على حدٍ سواء! وانكشف أداء هذا الثنائي وتوابعه فبدا محاصراً معزولاً يواجه حالة من الاحتضار الشعبي!
في هذا التوقيت جاء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يحمل رمزية علاقة تاريخية فرنسية - لبنانية. تزامنت الزيارة مع وضعٍ محاصر ومأزوم تمر به القوة الإقليمية المهيمنة، أي النظام الإيراني من خلال أداته المباشرة «حزب الله»، فكان القبول بأن تقوم فرنسا بحالة من الانتداب - الوصاية، وهي جهة ضليعة بذلك، وترك لها تدبير مسألة إعادة تعويم الطبقة السياسية المأزومة والمعزولة والمدانة شعبياً، وتعويم النموذج الاقتصادي الذي استجلب المآسي، وتعويم سلطة متحكمة باسم الطوائف أحلت نظام المحاصصة الطائفي الفاسد مكان الدستور. وما من مثل أدل على عزلة كل المنظومة السياسية من أنه بعد مرور شهر كامل على جريمة الإبادة التي تعرضت لها العاصمة وناسها، لم يتفقد أي مسؤول على أي مستوى كان المنطقة المنكوبة والتحاور مع أهلها والاستماع إلى همومهم، بعد دفن أشلاء الضحايا، وقد تهدم أمام أعينهم جنى أعمارهم!
في زيارته الأولى الاستكشافية طرح الرئيس ماكرون العناوين، واستبق الزيارة الثانية بتسمية رئيس للحكومة اللبنانية، اختاره موظف في الرئاسة الفرنسية وترك للآخرين في بيروت «سبق» إعلان الاسم، ليعلنوا التنازل أمام الخارج من دون شروط! وذهب الرئيس ماكرون إلى الحد الأقصى في منحى فك العزلة عن الرئاسة اللبنانية من جهة، ومن الجهة الثانية مراعاة المصالح الإيرانية، في لبنان وأبعد منه. فتولى إلقاء محاضرة في الفوارق بين جناحي «حزب الله»، وحصر ما يواجهه لبنان بالجانب الإصلاحي وهو ضروري وملح، لكنه سيبقى آيلاً للفشل مع تغول الدويلة على الدولة، واستمرار الحدود المستباحة. وقفز في طروحاته فوق المطالبة الشعبية الواسعة بالمساءلة والمحاسبة عن جريمة الرابع من أغسطس استناداً إلى تحقيق دولي شفاف. وفي الوقت عينه كان فريق من رجال الأعمال الفرنسيين يتقدم بين ركام المرفأ والمنطقة المنكوبة لضمان العقود المجزية في إعادة إعمار المرفأ وتشغيل محطة الحاويات إلى الصناعات البحرية الأخرى!
الكل يعرف أن السفير مصطفى أديب، الذي سُمي رئيساً مكلفاً قبل الاستشارات الملزمة في خرقٍ فج للدستور، كان مستشاراً لرئيس حكومة القمصان السود نجيب ميقاتي، وهي الحكومة التي فرضها «حزب الله»، وفي تلك المرحلة استبيحت الحدود والسيادة، وزج لبنان في مقتلة الشعب السوري، وتحول البلد إلى مخيم للاجئين بعد الحؤول دون إيجاد مخيمات في مناطق قريبة من الحدود! و»إنجاز» الإتيان به إلى رئاسة الحكومة ما كان ليتم لولا الدور الذي لعبه «نادي رؤساء الحكومات السابقين»، الذي وفر التغطية للخيار الذي أُنزل عليهم، في تحدٍ خطير لأهمية اللحظة التي يمر بها لبنان وشعبه. لكن هذه التغطية تبقى جزئية ومحلية ولا تعني بأي شكل استعادة لغطاء عربي – خليجي خصوصاً هو في الظرف الراهن المعبر الحقيقي لانتشال البلد من الحضيض!
الأمر الأكيد أن أعضاء هذا النادي ذهبوا في هذا الاختيار، إلى حد إنقاذ الثنائي الحاكم المدان شعبياً بالمسؤولية عن جريمة تفجير المرفأ والإبادة الجماعية، وأغفلوا أهمية قرار المحكمة الدولية في مقتل الرئيس رفيق الحريري وتجاوزوا تداعياته، كما أغفلوا التعديلات المهمة التي أدخلها مجلس الأمن على مهمات قوات «يونيفيل»، وغضوا النظر عن استمرار اختطاف الدولة. ولا شك أنهم يعلمون أن هذا الخيار سيرتب على لبنان خسارة وقت طويل، لأن خطوتهم ليست أكثر من استنساخ لحكومة حسان دياب، ولا يمكن غش الناس بهذه المسرحية الركيكة الإخراج بدليل رد الفعل الشعبي الواسع الرافض للخطوة وكذلك الرد الذي واجه مصطفى أديب عندما أبعده المواطنون لدى زيارته المنطقة المنكوبة.. لكن طهران ستبقى المستفيد الأبرز لتقطيع الأشهر الفاصلة عن الانتخابات الرئاسية الأميركية!
لم يتغير الكثير على الشارع اللبناني ولا على عامة الناس، والخشية كبيرة جداً من اتساع الكارثة الاجتماعية التي سيحملها تقرير الاسكوا اللاحق. واليوم كم يبدو في موقعه الشعار الأثير لثورة تشرين: «كلن يعني كلن، وما تستثني حدن منن»، ومصطفى أديب يبدو واحداً منن!