يوسف الديني
باحث سعودي ومستشار فكري. درس العلوم السياسية والإسلاميات التطبيقية، وعمل بالصحافة منذ عام 1999، وكاتب رأي في «الشرق الأوسط» منذ 2005، له كتب وبحوث ناقدة لجذور الإرهاب والتطرف والحركات والمنظمات الإرهابية في المنطقة. كتب عشرات الأبحاث المحكمة لمراكز بحثية دولية، ونشرت في كتب عن الإسلام السياسي والحاكمية والتطرف ومعضلة الإرهاب، وساهم بشكل فعال في العديد من المؤتمرات حول العالم.
TT

احتكار الانتهازية: الأوزان السياسية والاتفاق مع إسرائيل

القراءة السياسية تفترض عادة عدم الدخول في مهاترات انفعالية قدر أنها يجب أن تحاول فهم سياقات التحوّلات الكبرى، وانعكاسها على الملفات والقضايا المطروحة على طاولة الحوار والنقاش والجدل، التي تفترض أولاً احترام سيادة الدول في اتخاذ قراراتها منفردة، أو تحت مظلة تحالفية من شأنها أيضاً افتراض عدم التطابق الكلي في المواقف السياسية، حيث الكثير من الأوهام في تصور مفهوم الدولة المستقلة القُطرية يطال أيضاً مفاهيم التحالف في شكله الإقليمي، أو العالمي، بسبب ركام من التنظير الشمولي القومي والأممي الذي أفزر لنا فزّاعات إعلامية تحالف فيها الإسلام السياسي مع العفالقة القوميين، الذين خرجوا من أجداثهم مسرعين الآن عقب خطوة الإمارات التي يجب قراءتها ضمن السياق العام، وفهمها من دون الدخول في مزالق التقييم الذي يفترض معايير للصواب والخطأ، وهي خطيئة في الفهم السياسي، وإن كانت مطلباً لدى أصحاب المواقف الآيديولوجية.
منذ عقد كنت قد أشرت في مقال «رصيد (حماس) والقضية الفلسطينية في خطر» إلى مسألة يغفل عنها كثير من المعلقين على التحولات والفتور الذي هو جزء من سعي الدول إلى الانكفاء على الذات، والتفكير في التحديات الأمنية والاقتصادية بشكل منفرد كأولوية قصوى، بما يضمن عدم التدخل أو التأثير على صيرورة أصحاب القضية نفسها خارج إطار الدعم والتأييد لحل سلام شامل يرضي جميع الأطراف، وما يتبع ذلك من منمنمات جدار الخطاب الدبلوماسي، الذي لا يعكس تحولات كبيرة في مستوى تناول الصراع العربي الإسرائيلي، ومن زوايا عادة ما تفوت الباحثين السياسيين كمواقف الفاعلين غير السياسيين على الأرض، ومنها الخطاب الديني وحساسية الأجيال الجديدة جيل الألفية (Gen Z)، الذي يعكس أكثر صور «الفردانية» والقطيعة مع الخطابات الشمولية، بغض النظر عن توجهاته وميوله الدينية والسياسية، وهو ما يمكن ملاحظته بسهولة في كل الأبحاث المنشورة حول ما يعرف بـ«سلّم القيم»، وعلاقته بالتسويق السياسي. وعوداً إلى الفاعلين الدينيين لم أتفاجأ بوجود شخصيات اعتبارية عديدة، على رأسهم الشيخ عبد الله بن بيّه مفتي الإمارات، والشيخ عبد الله فدعق وآخرون، حتى في السياق السلفي التقليدي، ممن استحضروا فتاوى قديمة للراحلين الشيخ ابن باز والألباني حول مشروعية «الصلح»، وإن كان هذا الخطاب الديني على تأثيره لا علاقة له بالتماس مع تفاصيل المسألة السياسية وتعقيداتها القانونية والحقوقية، لكنه مؤشر على ما كنت ذكرته سابقاً أن رصيد القضية الفلسطينية، وكل القضايا الشمولية الحقوقية، بات في خطر محدّق، والأطراف المستثمرة في السوق السوداء السياسية لهذه القضايا، رغم عدالتها، هم السبب الأكبر في تحولات التوجهات السياسية من ازدواجية تقييم المواقف تجاه مشاريع الهيمنة الجديدة؛ تركيا إردوغان أكبر حلفاء إسرائيل في المنطقة، ودبلوماسية الدوحة التي تخلّت عن أي فعالية سياسية، وتحولت إلى مجرد راع وعاصمة جباية لمشاريع تقويض الاستقرار في الدول العربية، وإيران التي تمارس لعبة تفعيل أذرعها الإرهابية والمتطرفة من «حزب الله» إلى الحوثيين، وصولاً إلى انحياز «حماس» لمعسكر الملالي، وهو ما ألقى بظلاله على القضية الفلسطينية، ورصيدها، ومحاولات إبقائها، من قبل مشروع الهيمنة التركي الإيراني كقضية محتكرة للانتهازية السياسية والمتاجرة بها وتحويلها إلى فزّاعة في حال أي مقاربة لتحريك المياه الراكدة، وزاد الطين بلّة فشل كل المحاولات بين طرفي النزاع «فتح» و«حماس» في الوصول إلى حلول وتفاهمات، وهما المعنيان الأساسيان بالمقاربة السياسية، بل تطور الحال إلى تضخم حالات الفشل، وانهيار عواصم عربية بفعل الانكسارات السياسية والاقتصادية، مما ألقى بتحديات الانكفاء على الذات، ليس على الدول التي تحاول الحفاظ على استقرارها، بل شمل الدول التي تحاول الخروج من مأزق تصدعات ما بعد «الربيع العربي» في العراق ولبنان وسوريا، إضافة إلى تحديات تحمل أعباء الانسداد السياسي في فلسطين، كما هو الحال في الأردن، وإذا كان الدعم الاقتصادي والسياسي الذي تقدمه دول الخليج من دون منة أو ادعاء فضل ساهم في تماسك المؤسسات الأساسية، إلا أن الخطاب السائد المؤلب ضد الخليج وقياداته السياسية، بل والمنحاز إلى المتاجرين بالقضية بشكل فجّ، وبتأييد من الأطراف السياسية في فلسطين، لم يطَل حكمة وصبر القيادات السياسية في الخليج، إلا أنه أصاب الخطاب المجتمعي بحالة من الاستياء، بلغت حد التنصّل الدفاعي من القضية ذاتها، والحال أن خروج خطاب التغذية المتطرف الذي كان الإسلام السياسي يمارسه قبل مغادرته مشهد التأثير السياسي على المجتمع، وصعود خطاب العولمة، بما يحمله من شعارات إنسانية حتى في أشكال ونماذج ساذجة وتسويقية... كل ذلك ساهم في انخفاض الرصيد للقضية الفلسطينية، رغم عدالتها، إلا أن الأكيد أن حالة التقديس الذي كانت تقتات عليه الأطراف السياسية لم يعد موجوداً في القطاع العريض من الأجيال الجديدة.
الصمت على ردود الفعل تجاه الإمارات وقرارها السيادي الذي يخصّها، ويجب النظر إليه على أنه من حقوقها، فضلاً عن مهاجمتها من قبل أطراف فلسطينية، أو الهجوم عليها المنظم من قبل حلف الأزمات ومنصته في الدوحة قناة «الجزيرة» سيزيد من تفاقم الأزمة، ويجعل تناقص ما تبقى من الرصيد المعنوي والإنساني تجاه القضية السياسية العادلة في فلسطين معرضاً للخطر، وسيعيد للأذهان نفاد رصيد «حماس» حين راهنت على القوارب الإرهابية، وأبحرت إلى ساحل المجهول.
الطبيعي أن اللعبة السياسية تفرض إيقاعاتها المختلفة؛ فاللاعبون في مضمار السلطة ليسوا كالمتفرجين في مقاعد المعارضة؛ لكن هذا التحول في الخطاب السياسي الانتهازي في الاستثمار بالقضية الفلسطينية، والمتاجرة بقضية الشعب الفلسطيني العادلة، ألقى بحمولات ثقيلة جداً على الدول والمجتمعات في ظل الانقسام وحالة التشظي الفلسطيني، فضلاً عن الصمت المطبق تجاه المشاريع التوسعية ومحاولات الهيمنة من قبل ملالي طهران ونظام إردوغان، وفي ظل أصوات تهاجم الدول الخليجية ومجتمعاتها، وترقص طرباً على استهدافها... ما تحتاجه القضية الفلسطينية أبعد من خيارات السلام، وتفاصيلها المنفردة والجماعية، أو الموقف من إسرائيل، ونهم إدارة ترمب لمكاسب سياسية في المنطقة ترفد حملته الانتخابية... ما تحتاجه إلى سلام ذاتي أولاً قبل كل شيء.