فايز سارة
كاتب وسياسي سوري. مقيم في لندن. عمل في الصحافة منذ أواسط السبعينات، وشارك في تأسيس وإدارة عدد من المؤسسات الإعلامية، وكتب في كثير من الصحف والمجلات، ونشر دراسات ومؤلفات في موضوعات سورية وعربية. وساهم في تأسيس العديد من التجارب السياسية والمدنية.
TT

سوريون ولبنانيون: عندما يتشابه الإخوة

لا الإنشاء هو من يجعل السوريين واللبنانيين متشابهين، إنما الوقائع. وليس بالضرورة أن تكون الوقائع بيولوجية، فهذا جانب يمكن أن يحصل فيه تشابه الإخوة، بل إن التشابه يمكن أن يكون بفعل تشابه الظروف المحيطة، والتي تجعل الناس متشابهين في واقع حيواتهم، ومتشابهين غالباً في مآلاتها ونتائجها، وهذا ربما هو الأهم في تشابه السوريين واللبنانيين، وهو ليس الوحيد كما أرى.
لقد بدا انفجار مرفأ بيروت، بما يمثله من كارثة فظيعة في مجرياتها ونتائجها، أحد أوجه تشابه الأشقاء، بل هو أحد فصول دائرة من تشابه أكبر، بدأ مع ثورة اللبنانيين في خريف العام 2019 والتي رفعت شعار «كلن يعني كلن» وهو المضمون اللبناني لأهم شعار في ثورات الربيع العربي، التي كررها السوريون كغيرهم معلنين: الشعب يريد إسقاط النظام، والتي كانت تعني ذهاب النظام بكل مراتبه من الرأس إلى أدنى الذيل، مما يعني «كلن يعني كلن».
بين بداية ثورة 2019 وانفجار مرفأ بيروت في الأسبوع الماضي، مرت موجة من تشابه الأشقاء، كانت بينها ثلاثة أحداث؛ أولها انخراط المؤسسة العسكرية - الأمنية اللبنانية (ولو على نطاق ضيق) في مواجهة مع الثورة ونشاطاتها بما فيها النشاطات السلمية، والثاني دخول ميليشيات «حزب الله» وقياداته على خط مواجهة الثورة على المستويين الأمني والسياسي، عندما أحست أن المؤسسة الرسمية، لا تعمل بالكفاءة المطلوبة في مواجهة الثورة، والثالث كان في مجريات الكارثة الاقتصادية التي ضربت اللبنانيين، فدمرت مدخراتهم الموضوعة في البنوك، ثم قادت عملتهم إلى انهيار قيمتها أمام العملات الأجنبية، فأدخلتهم سراديب الفقر والجوع وأشياء كثيرة أخرى، وقد تشارك السوريون واللبنانيون التشابهات الثلاثة، وخاصة الأخير في تماثل حال السوريين الموجودين في لبنان مع اللبنانيين وهذا أمر طبيعي وعادي، وتم تجاوزه ليصير تشابهاً على مستوى بقية السوريين ولا سيما المقيمين تحت سيطرة نظام الأسد.
قبل حالات تشابه الأشقاء في مجريات العام الماضي، ثمة حالات من تشابه سوري - لبناني من ماض ليس ببعيد، يجد أساسه في تدخلات نظام الأسد الأب في الحياة اللبنانية بعد تدخله العسكري عام 1976 وهي تدخلات لم تقتصر على جانب محدد، بل وجدت طريقها إلى مختلف جوانب الحياة وصولاً إلى التفاصيل، وكان بين تعبيراتها تسليم المؤسسة الأمنية - العسكرية إدارة العلاقة مع لبنان واللبنانيين، حتى وإن بدا أن نائب الرئيس وأقصد عبد الحليم خدام هو الممسك بالملف اللبناني داخل نظام الأسد، لكن مسؤول المخابرات العسكرية في لبنان اللواء غازي كنعان كان الفاعل الرئيسي بما يتصل بلبنان واللبنانيين، وما يتصل بالاثنين مع خارج لبنان، وهو ذات النظام الذي كان يحكم سوريا والسوريين، أعني نظام المخابرات العسكرية الذي كان ينتمي إليه كنعان، وكان الأهم قولاً وعملاً وتأثيراً رغم تعدد أجهزة المخابرات السورية.
لقد غير نظام الأسد الكثير في حيوات اللبنانيين ما بين تدخله في لبنان 1976 والخروج منه 2005؛ دمر النخبة اللبنانية التي عارضته ولا سيما السياسيين والإعلاميين، وهمش الأحزاب والجماعات السياسية كما فعل في سوريا. ومنذ حوالي ثلاثة عقود ونصف من السنوات، ترن في أذني كلمات إنعام رعد «قلنا للأسد خذ الحزب القومي السوري لك، فقال أريده ثلاثة، وهكذا مزق حزبنا إلى ثلاثة أحزاب متصارعة فيما بينها وحليفة له».
وعمم نظام الأسد الفساد في لبنان. فصار نخبة من النظام اللبناني مشابهين لرموز نظام الأسد الذين جرى تأسيسهم وتواصلت رعايتهم من جهاز مخابرات النظام. وجرى تدجين الجيش اللبناني والأجهزة الأمنية وتحويلها إلى صورة مشوهة عن جيش الأسد ومخابراته، وهو شكل أدنى من أشكال القوة والعنف التي يمارسها «حزب الله» الذي ولد تحت مظلة المخابرات السورية؛ ليكون أداة مشتركة لنظام الأسد ونظام الملالي الإيراني في لبنان كما في سوريا.
لم تكن محض صدفة، حالة التشابه السوري - اللبناني في العام 2005 فقد كان السوريون يسعون عبر نشاطات متعددة إلى تغيير سلمي وهادئ في سوريا في فترة ربيع دمشق 2000 - 2005، وأعتقد أن ذلك شجع اللبنانيين في إطلاق ثورة الأرز 2005 بعد اغتيال رئيس وزرائهم الأسبق رفيق الحريري بتشارك سوري مع «حزب الله»، مما أدى إلى إخراج جيش الأسد ومخابراته من لبنان، وقد هيأت تلك الظروف إلى عمل لبناني سوري مشترك هو الأول في تاريخ علاقات الشعبين، حيث أصدر مثقفون لبنانيون وسوريون في العام 2006 وثيقة إعلان بيروت - دمشق، التي رسمت ملامح علاقات أخوية حرة بين البلدين والشعبين في مختلف المجالات المختلفة وخاصة من الناحيتين السياسية والدبلوماسية.
كثيرة اليوم حالات التشابه السوري - اللبناني، فهما بلدان وشعبان محكومان بنظامين متحالفين مع إيران، التي جعلت «حزب الله» أداة الولي الفقيه وراعي مصالح إيران قوة دفاع أساسية عن نظام بشار الأسد، وراعياً ومدافعاً عن نظام الجنرال ميشال عون، والحالة الثانية، أن النظامين اللذين يحكمان السوريين واللبنانيين لا أمل في إصلاحهما، حيث يصر كلاهما - ولو بطريقة مختلفة إلى حد ما - أن لا أمل في التغيير، وأن الأمور إلى مزيد من التدهور والتردي خاصة في ظل الاحتدامات والصراعات الإقليمية والدولية المفتوحة في المنطقة وفي بلدانها التي ترسم ملامح «الهلال الشيعي» وتجاوره.
وسط واقع كارثي يلف السوريين واللبنانيين، تتشابه أحواله وأطرافه، وتحيط به مآلات متقاربة، يبدو من الطبيعي، أن يتشارك السوريون واللبنانيون، أو يتفاهما على الأقل حول ما يمكن أو ما ينبغي عمله، حتى وإن لم يكن في إطار تحالفي واحد، ولعل الأهم هنا ثلاث نقاط أساسية؛ أولى النقاط ضم جهودهما في مواجهة النظامين في بلديهما وحليفهما المشترك «حزب الله» مع جهود القوى العربية التي تناهض التمدد الإيراني في المنطقة، وجعل الجهد المشترك بين أهم الأولويات في السياسات والعلاقات الإقليمية. والنقطة الثانية تبريد أي خلافات أو نزاعات لإثارة خلافات في المستوى الشعبي بين الطرفين، وخاصة حول موضوع النازحين السوريين في لبنان الذي ينبغي أن يكون نقطة تلاحم سوري لبناني من أجل توفير ما أمكن لتسهيل حياتهم في لبنان، وصولاً إلى توفير عودة آمنة وكريمة لهم إلى بلدهم. والثالثة إقامة مستوى من تنسيق سوري لبناني، يضم فعاليات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، ويوفر معلومات وتحليلات وسيناريوهات ومشاريع خطط عمل، تتصل بالبلدين والشعبين وبمعركتهما من أجل التحرر من السيطرة الراهنة وحليفها الإيراني.
نعم هناك متشابهات سورية - لبنانية، بعضها قديم وآخر راهن، لكن هناك أيضاً متشابهات مستقبلية بين الأشقاء أساسها ما ينبغي القيام به من جهود مشتركة للخلاص من الكارثة التي يغرق فيها الطرفان بسبب خصوم ثلاثة، يتحملون أغلب مسؤولية الكارثة السورية - اللبنانية الراهنة.