عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

عن الديمقراطية والحداثة وصمود بيروت

تطورات الأسبوع الماضي أعادت إلى الذهن التفكير في التطورات الديمقراطية، ومهام الحكومات المسؤولة، وقضية التمثيل النيابي لوضع أي حكومة أمام المحاسبة، وما هي آليات هذه المحاسبة؟
السؤال طرح نفسه من مكانين متباعدين؛ من شاطئ اللافانت، شرق المتوسط في الأيام التي أعقبت الكارثة الإنسانية في بيروت؛ وعلى بعد 2900 ميل، من لندن في احتجاجات تلت نشر قائمة تعيينات الملكة للوردات (شيوخ) جدد بمجلسهم في أم البرلمانات.
تجول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في شوارع بيروت يواسي اللبنانيين واللبنانيات وهم يحتضنونه، وردود فعلهم أخرجت المخزون في ذاكرة دفعت به تطورات سياسية تقودها الآيديولوجيات إلى «فريزر» العقل الجماعي لا إلى بيداء النسيان. رأينا الترحم على الروح الانفتاحية الكوزموبوليتانية التي كانت بيروت تعيشها فعلياً لا رمزاً لها فقط، متمثلاً في الاستغاثة بالزعيم الفرنسي أثناء تجوله بشكل لم تعهده المنطقة من زعماء التحرير الملوحين بأعلام العروبة والإسلام وحمايتهما من مخالب «الاستعمار». المفارقة المناقضة للتيار السائد كانت العريضة على وسائل التواصل الاجتماعي ليوقعها عشرات الآلاف من اللبنانيين مطالبين بوضع بلادهم تحت الانتداب الفرنسي لعشر سنوات بعد سبعة عقود من الاستقلال.
الإدانات والاحتجاجات والإهانات التي تلقاها اللبنانيون الذين أثاروا مسألة العودة للانتداب وناشدوا الزعيم الفرنسي ألا يصل الدعم المالي إلى أيدي الطبقة الحاكمة المتهمة بالفساد، من القومجيين والإسلامويين الغيورين على العروبة والدين الحنيف من أنياب ماكرون، فاقت على وسائل التواصل الاجتماعي ما تلقاه البيروتيون من عبارات التعازي والتعاطف مع الكارثة. المفارقة الأخرى أن هؤلاء الإسلامويين والعروبيين أنفسهم، الغاضبين من مبدأ الاستغاثة بفرنسا، استمر صمتهم الذي يصم الآذان لعقدين تجاه النفوذ والسيطرة الإيرانيين المتزايدين وإدخالهما لبنان في حروب متعددة وكانا من أهم أسباب الكارثة الأخيرة.
في بريطانيا أيضاً تتخذ الاحتجاجات طابعاً آيديولوجياً أكثر منه منطقياً أو سياسياً، بسبب تعيين أول بطل رياضي في تاريخ اللوردات، بجانب زوج رئيسة الوزراء السابقة تريزا ماي، بينما لم يرشح للوردات رئيس مجلس العموم السابق جون بيركو وهو أمر غير معتاد. المعترضون اتهموا حكومة المحافظين بزعامة بوريس جونسون بالمحسوبية وبأنها تنتقم من رئيس المجلس السابق بسبب محاولاته التي كانت واضحة لعرقلة الـ«بريكست». المنتقدون، وهم من البقائيين في الاتحاد الأوروبي ومن الحركة اليسارية والنزعة الجمهورية، يطالبون بإلغاء مجلس اللوردات، بحجة أنه غير منتخب، وهذه التيارات، غالباً ما تخلط ما بين الانتخابات، وهي مجرد حلقة في سلسلة كعملية تتم كل بضع سنوات، وبين الديمقراطية كنظام متكامل اقتصادياً ودستورياً واجتماعياً.
العملية الديمقراطية، خاصة في الديمقراطيات الكبيرة والعريقة، ناهيك عن موطن أم البرلمانات، مستمرة يومياً. مجلس اللوردات غير المنتخب هو مرحلة دستورية أساسية وركن من أركان البنيان الديمقراطي. السلطة الرابعة المستقلة تضع الساسة المنتخبين والحكومة وأداءها تحت مجهر الرأي العام، وانضمت إليها في السنوات الأخيرة وسائل التواصل الاجتماعي، بجانب البلديات المحلية، ومجالس المدن، والمستثمرين ورجال الأعمال كباراً وصغاراً، والاتحادات العمالية والنقابات المهنية؛ سواء بدعمهم المادي والمعنوي للمؤسسة السياسية أو منعه، بجانب النظام القضائي المستقل، وغيرها من عشرات المؤسسات وليس فقط العملية الانتخابية.
ترك رئيس مجلس العموم السابق خارج قائمة التعيينات لا علاقة له بـ«بريكست»، بل لسوء استغلاله منصبه وانتهاكه للتقاليد البرلمانية التي يحرسها مجلس اللوردات لقرون. ومن سمتهم الصحافة بـ«طابور بروكسل الخامس» زعماء حركة البقاء في الاتحاد الأوروبي عينتهم الملكة في مجلس اللوردات بتوصية من حكومة جونسون، رغم تصويتهم ضده في البرلمان، مثل وزير المالية الأسبق فيليب هاموند، وأبي البرلمان حتى 2019 (أقدم نائب) كينيث كلارك الذي تولى عدة وزارات في حكومات متعددة. خريج أكسفورد فيليب ماي، زوج السيدة تيريزا لم يعين للمحسوبية، بل لخبرته في مجالات الاستثمارات والمال، مثل زميلته ثلاثية الجنسية (بريطانية أميركية مصرية) مديرة كلية لندن للاقتصاد، نعمات شفيق، من مواليد الإسكندرية 1962 لتصبح البارونة شفيق. مجلس اللوردات يمثل حكماء القبيلة الخبراء في مجالاتهم، بطل رياضي لأن الرياضة تساهم بـ31 مليار دولار في اقتصاد البلاد، بالإضافة إلى 32 مليار أخرى ينفقها الوافدون لمشاهدة مباريات رياضية. اللوردات يتولون مراجعة القرارات التي صوت عليها مجلس العموم لإصلاح ما فيها من أخطاء قبل رفعها للملكة للتصديق، وكثيراً ما صوّت لوردات عماليون أو محافظون ضد قرارات حكومتهم الحزبية لتفضيلهم الولاء للوطن على الولاء للحزب بسبب تحررهم من الضغوط الانتخابية.
الديمقراطية والتمثيل والتعددية تتجاوز الانتخابات، ولبنان كان، حتى عهد قريب نموذجاً لتعايش موزايك افتقرته منطقة جنوب المتوسط وشرقه. فالبلاد محدودة الموارد وسكانها أربعة ملايين، يتدفق عليها من الآيديولوجيات والسلاح وتمويل الميليشيات أضعاف ما يجب أن يصل إلى الخزانة لدعم رعاية قرابة مليوني لاجئين ونازحين فلسطينيين وعراقيين وسوريين. بعد سقوط قلاع الحداثة والتعددية وتسامح الكوزموبوليتانية، الذي بدأ بتهاوي أكبرها، الإسكندرية، بعد حرب السويس ورحيل نصف أهلها، بقيت بيروت ترفع الراية التي سقطت من يد عروس المتوسط القديمة، باستمرار واهن لمشروع التطور والتحديث الذي بدأ مع الحملة الفرنسية في 1798 وأجهض في مطلع الستينات. بيروت وقفت وحيدة تجتاحها عواصف الآيديولوجيات والتيارات المتشددة التي تتصارع في لبنان. ذكريات إحياء مشروع الحداثة هي ما حرك الحنين لأيام الانتداب الفرنسي، كمحاولة إنهاض بيروت مرة أخرى حتى لا تنتهي ثقافياً واجتماعياً وحضارياً وديموغرافياً إلى ما مرت به الإسكندرية. النظام التمثيلي الانتخابي اللبناني ربما كان مناسباً في 1942 والبلاد وقتها «بلقانات» كجبل لبنان؛ والموارنة؛ وطرابلس؛ وجبل الدروز؛ لكنه لا يناسب الدولة القومية الحديثة ببنية يدعمها اقتصاد قوي لا يقوضه الفساد. مكافحة الفساد تكون بسيادة القانون، وبفصل المؤسسات، كالقضاء المستقل وجهاز الدولة الثابت، عن الحكومة المؤلفة من نواب برلمان منتخبين بنظام الدوائر ممثلين أحزاباً تعبر عن مصالح فئات اقتصادية لا بمحاصصة طائفية إثنوغرافية ودينية. العراق ضيع فرصة التطور الدستوري الديمقراطي باتباع نظام القوائم النسبية الذي يعمق الطائفية ورفضه لنظام الدوائر البرلمانية بلا محاصصات طائفية و«كوتات». بريطانيا رغم استمرار تطور الديمقراطية فيها منذ القرن الثامن الميلادي حتى اليوم، يرفض فقهاؤها الدستوريون تعديل النظام الانتخابي إلى القوائم النسبية، محافظين على نظام الدوائر الانتخابية التي يمثلها نائب واحد، لضمان حكومة تعبر حقيقة عن الناخب ومصالحه.