عبدالله بن بجاد العتيبي
كاتب سعودي مهتم بالحركات الإسلامية والتغيرات في الدول العربية، وله عدة مؤلفات حول ذلك منها «ضد الربيع العربي» وله أبحاث منها: «القابلية للعنف والقيم البدوية»، نشر في 2006. و«السرورية» 2007. و«الولاء والبراء، آيديولوجية المعارضة السياسية في الإسلام» 2007. و«الإخوان المسلمون والسعودية الهجرة والعلاقة» 2010. قدم عدداً من الأوراق البحثية للعديد من مراكز الدراسات والصحف. شارك في العديد من المؤتمرات والندوات، وهو خريج جامعة المقاصد في بيروت في تخصص الدراسات الإسلامية.
TT

«الجبريون»: وسوى الروم خلف ظهرك رومٌ

من يعرف تاريخ جماعة الإخوان المسلمين، يعرف قدراتهم على التخفي والاختباء في لحظات الضغوط وتحيّن الفرص الملائمة للرجوع لممارسة أنشطتهم وتقوية تنظيمهم، وقد فعلوا ذلك في أكثر البلدان التي تعرضوا فيها للضغوط أو المنع من النشاط، كما جرى في زمن عبد الناصر في مصر وفي غيرها.
تناقل العالم ووسائل إعلامه القضية المدوية التي نشرتها صحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية، والتي تفضح بالدلائل والأرقام ما كان يصنعه سعد الجبري من فسادٍ عريضٍ في وزارة الداخلية السعودية، وسرقته لأكثر من أحد عشر مليار دولار من الصندوق المخصص لمكافحة الإرهاب، وذكرت بعض شركائه المقربين الذين شاركوا معه في السرقة والاختلاس والفساد.
ما لم تتطرق له الصحيفة هو أن شركاء الجبري الذين يمكن أن يقال لهم «الجبريون»، لا يزالون موجودين في المجتمع والدولة، كلٌ في مكانه، ولم يزل لهم تأثيرٌ ونفوذٌ، وهم ليسوا صنفاً واحداً بل هم أصنافٌ وأنواعٌ متعددة، فبعضهم إخواني صلدٌ، أو سروري جلدٌ، أو قاعدي أو «داعشي» يخبّئ انتماءه، وينتظر ساعة الصفر أو «يوم الدم»، كما كان يسميه حسن البنا مؤسس الجماعة.
الدولة السعودية ملكية رحيمة ليست متسلطة ولا متجبرة، وهي تمنح لهؤلاء «الجبريين» الفرصة للعودة لحضن الوطن، والتخلي عن الولاءات الخارجية والعمالة للجماعة الأم، وترك بيعة المرشد، والالتزام ببيعة خادم الحرمين الشريفين وولي عهده، والدولة قادرة على تقصيهم ومعرفتهم واحداً واحداً، ويكفي في هذا تتبع «البيانات الجماعية» التي كانت تصدرها جماعات الإسلام السياسي على مدى سنواتٍ وسنوات، ويوقع عليها العشرات أو المئات، ويطالبون فيها بمطالب سياسية أو مجتمعية أو تعليمية تجمعها الرؤية الآيديولوجية المتطرفة لهذه الجماعات.
«الجبريون» البيروقراطيون في المناصب لا يستجيبون لتوجه الدولة، ويسعون دائماً إما لإعاقة القرارات التي لا تتفق مع آيديولوجيتهم أو تفسيرها بتفسيرات تفقدها مضمونها، وهم ما زالوا يستخدمون الأفكار والمقولات نفسها التي كان يستخدمها الجبري ورموز الإخوان والسروريين وغيرهم من الصحويين في تشويه الدولة أو الخصوم، ويتبنون مقولاتهم السابقة، مثل وصف «الحداثيين» في الثمانينات أو «التغريبيين» في التسعينات أو «الليبراليين» في العقد الأول من الألفية الجديدة، وما زالوا يتحدثون عن أوهامهم الصحوية مثل قصة «التطرف المضاد»، أو السعي لاغتيال الشخصيات المعارضة لهم عبر «التشويه» و«الهمز واللمز» و«الكذب الصراح» أحياناً، فهؤلاء المؤدلجون لا تعنيهم أحكام الإسلام ولا شرائعه، بل الأهم لديهم هو أحكام الجماعة أو التنظيم ومصالحه، وشواهد هذا لا تحصى.
تحدث الأمير نايف بن عبد العزيز، رحمه الله، حين كان وزيراً للداخلية عن هؤلاء، وقال في تصريحاتٍ أطلقها في 2002 في حوارٍ معروفٍ مع صحيفة السياسة الكويتية العدد رقم 1222113، بتاريخ 23 نوفمبر (تشرين الثاني) من ذلك العام قائلاً: «جماعة الإخوان المسلمين أصل البلاء. كل مشاكلنا وإفرازاتنا جاءت من جماعة الإخوان المسلمين، فهم الذين خلقوا هذه التيارات وأشاعوا هذه الأفكار»، مذكراً بأنه «عندما اضطهد (الإخوان) وعلقت لهم المشانق لجأوا إلى السعودية فتحملتهم، وحفظت محارمهم وجعلتهم آمنين»، مبيناً أن «أحد (الإخوان) البارزين أقام 40 سنة عندنا، وتجنس بالجنسية السعودية، وعندما سئل عن مثله الأعلى قال: حسن البنا».
وممن عمل في وزارة الداخلية السعودية مستشاراً لمدى عشر سنواتٍ، الإخواني المصري المعروف «مأمون الهضيبي»، الذي رجع لاحقاً إلى مصر وأصبح المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين هناك، والمشكلة أن تغلغل الجماعة في وزارة الداخلية وغيرها من الوزارات كان قديماً منذ قدوم أوائلهم نهاية الخمسينات وطول الستينات واستمر لعدة عقودٍ، وقد تغلغلوا في مؤسسات الدولة، كما تحدثت زينب الغزالي في مواضع من كتابها المعروف «حياتي»، وكما شرح وبالتفاصيل علي عشماوي في كتابه ذائع الصيت «التاريخ السري لجماعة الإخوان المسلمين».
تسلَّم الراية من الإخوان المصريين والسوريين الوافدين والهاربين من مصر وسوريا والعراق وغيرها جيلٌ جديد صنعوه على أيديهم من الشباب السعوديين، الذين استطاعوا تجنيدهم وخلق تنظيم إخواني سعودي، وكان على رأس من بدأ عمليات التجنيد الإخواني المعروف منّاع القطّان، وهو ما أثبته علي عشماوي في كتابه السابق حيث ينقل تحت عنوان «قيادات المهجر» سؤاله لمحيي هلال، أحد الإخوان الذين هاجروا إلى السعودية، قائلاً: «وبعد أن سمعت قصته سألته عن حال (الإخوان)، فأجاب: إن (الإخوان) في السعودية قد اختاروا مناع قطان مسؤولاً عنهم، و(الإخوان) في إمارات الخليج اختاروا الأخ سعد الدين (الصحيح عز الدين) إبراهيم مسؤولاً... مناع قطان هو أحد إخوان المنوفية، وقيل إنه أول مصري يجرؤ على تجنيد سعوديين في دعوة (الإخوان) في مصر للشباب السعودي، ولذلك فإنه قد فرض نفسه مسؤولاً عن (الإخوان) بالسعودية دون استشارة أحد». ويضيف: «أخذت الخطاب وذهبت للأستاذ سيد قطب، وطلبت مقابلته دون موعد سابق وقابلني، وقرأ الخطاب وأبدى إعجابه الشديد بالإخوة في السعودية، وقال إن هذا دليل على أنهم منظمون جداً، وأنهم على كفاءة عالية من العمل...»...
إنشاء تنظيمات إخوانية في السعودية قديم جداً ومنذ الستينات وما بعدها، ثم دخلت تنظيمات أخرى على الخط وبالفكر نفسه والتنظيم ذاته والتمويل عينه، مثل السرورية وحزب التحرير وغيرهما كثير، ومن الطبيعي أن هؤلاء المؤدلجين لن يختفوا ولن يتبخروا بمجرد قرارٍ يصنفهم إرهابيين، ولكنهم سيلجأون لما يحسنون وهو الإعاقة والممانعة والتربص.
ما من شكٍ أن «الجبريين» هم أول من يتبرأ من الجبري، ويعلنون القطيعة معه وذمه على ما صنعه، بعدما تم فضحه وفضح مخططاته ومشروعه المعادي للدولة، وذلك حفاظاً على مناصبهم أو نفوذهم أو مصالحهم، والمؤدلج لا يتغير بل يتلوّن وبعض «مطايا الإخوان»، يتقلبون حسب مصالحهم الشخصية، وليس لقناعة راسخة أو لتغيير فكري.
أخيراً، ثمة مشكلة كبرى تجب مراجعتها وهي أنَّ بعضاً ممن يملكون شيئا من الثقافة أو المسؤولية لا يعرفون الإخوان وجماعات الإسلام السياسي، فهم يعتقدون أن الإخواني لا يحلق لحيته ولا يشرب الخمر ولا يقترف الزنى، وهذه كلها ممارسات إخوانية قديمة، بل هم معروفون بارتكاب ذلك كله، وشاهدنا الاتهامات المروعة بالاغتصابات وما إليها من منكرات، ولذلك يجب أن تكون هناك حملة لتثقيف غير المتخصصين بطبيعة جماعات ورموز الإسلام السياسي.