إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

لحظة القبض على دمعة

يبيع الفقير كليته ليطعم أطفاله. أو يبيع دمه ليشتري دواء لهم. وهناك من المشاهير المترفين من يبيع دموعه ويقبض ثمنها مزيداً من المال والانتشار. هذا ما نراه في كثير من برامج «التوك شو»، أي استعراض الكلام، أو في حصص تلفزيون الواقع.
يجلس الضيف أمام المذيع، ويُفضّل لو كان ضيفة، ويبدأ بالرد على أسئلة مصممة للإحراج. ينكش مقدم البرنامج في سيرة ضيفه. يتطرق إلى دقائق حياته الخاصة ويستفسر عن مواقف يود صاحبها لو ينساها. أو يوهمنا بأنه يود لو ينساها. لكنه فنان واضح وصريح ولن يتهرب من الرد. وهي فنانة سيرتها على كل لسان وليس لديها ما تخفيه. هل صحيح أنك تزوجت للمرة الخامسة؟ لا، مجرد إشاعة، ولو تزوجت أعدك بأنك ستكون أول من يعرف. تشتكي الضيفة من ظلم الشائعات التي تسمم عيشتها وتطرق برأسها وتوشك على البكاء.
يخرجون بنا إلى فاصل إعلاني فنمتثل ونجلس مكتّفي الأذرع مثل التلاميذ الشطّار ننتظر عودتهم. كان الإعلان الترويجي للبرنامج قد وعدنا بالكثير من الدموع. نحن نريد الدموع. تلك اللحظة التي تسبل فيها النجمة رموشها الكثيفة المضاعفة ويسيل الكحل على وجنتيها العامرتين. لحظة يتحفز المخرج ويطلب من المصور أن يذهب «زوووووم» على الوجه الباكي. تصاب الشاشة بالهيجان عند بلوغ ذروة الاستعراض. لا بد من اقتناص الدمعة الفارة من العين بأكبر لقطة ممكنة. ثم يتكرم مقدم البرنامج ويأمر للضيفة بمنديل، ثم يخرج إلى فاصل لإصلاح ما فسد من زينتها.
مضى زمن المنفلوطي لكن هناك أحزاباً طويلة عريضة من عشاق «العبرات». تتابع الأمهات أفلام أمينة رزق وفاتن حمامة وشادية ومناديلهن بأيديهن. تسأل الطفلة والدتها عن سبب بكائها وهي تتفرج على التلفزيون، وتجيب الأم: «غداً تكبرين وتفهمين». تكبر البنت وتتصور أنها فهمت. تذهب مع صديقاتها إلى السينما ويشترين علبة «كلينكس» قبل اقتناء التذاكر. المآسي جذابة والحزن جميل وذرف الدموع يخفف عن القلوب المتلهفة للحب. تنقلب البكائيات إلى حفلات ترفيه. تخرج أفواج المشاهدين من الصالة بأعين حمراء ونفوس مُنتشية. لم تذهب فلوس الفيلم سدى.
لكن النجمات لسن وحدهن من يبكين في برامج التلفزيون. ولا البنات في السينما. هناك زعماء يعرفون سطوة الدمعة فيذرفونها في مواقف الأزمات أمام الجماهير. رأينا قادة من الشرق والغرب يمارسون هذا التمرين الناجح على مدى العصور. أنت قوي لكنك مهموم بهموم شعبك. قلبك على قلبه. تجسّ نبض معاناته ولا تنعزل في أبراج العاج. ثم ينبري ألف قلم ليتغنى ببلاغة الدمعة، و«لا تبكِ يا حبيب العمر».
وضع مخرج مسلسل «ذا كراون» عبرة من الغليسرين على خد إليزابيث الثانية. لكن ملكة بريطانيا حرصت على ألا يراها أحد وهي تبكي في العلن. لعلها ذرفت دموعاً في جنازة والدها، أخفاها حجاب الدانتيلا المسدل على وجهها. أو مسحت جفنها لدى إزاحة الستار عن نصب لضحايا الحرب. ولم تكن تلك دمعة صريحة بل شبهة دمعة. وحتى كنّتها الليدي ديانا لم تبلّ ريق المشاهدين بدمعة، خريف 1995. في مقابلتها الشهيرة مع «بي بي سي». كانت حزينة كسيرة تقول كلاماً مؤسفاً بينما يتحفز المذيع والمخرج وفريق التصوير للقبض على دمعة تفرّ من عينيها. لم يفهموا أنها حسبت مع مستشاريها، مسبقاً، وقع كل عبارة، ورتّبت تأثير كل نظرة ونهنهة. لا يليق بالأميرة المحبوبة أن تنزلق إلى الميلودراما. هي المرأة الضعيفة القوية التي هزّت أركان العرش.