فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

تيار الجبري... ثلة سادت ثم بادت

أعاد تقرير «وول ستريت جورنال» للسعوديين ذاكرتهم مع حقبة كادت تنسى بفعل التنمية العظيمة التي تشهدها المملكة، حيث منح التقرير فرصة للمتابعين تركيب الأحداث، وتفسير التصرفاشت وتأويل الهجمات، واكتشاف أسرار العلاقات وإدارة الصراع بين التيارات.
كانت يد الجبري مفلوتة طوال سبعة عشر عاماً هو عمر النفوذ الثاني للصحوة في السعودية بعد الإفراج عن رموزها أواخر التسعينات، ومن ثم استئناف أنشطتهم بعد عام 2001 عبر مجلات بأوراق مصقولة تنافس المجلات الفنية، ثم برامج، ولاحقاً تحولت إلى منظمات ومؤسسات وجمعيات، وملكوا قنوات تلفزيونية مرخصة ومتاحة داخل البلاد.
الصحافية صاحبة التقرير روت جانب الفساد المالي، ولكن ما يوازيه خطورة مساهمته في انقسام المجتمع وغرس الكراهية بين أبنائه وتوجيه التيارات وصراعاتها عبر المنتديات الإلكترونية، ومعارض الكتب، وبرامج سجال تلفزيونية يقصد منها عمداً إهانة مثقفين وكتّاب، وكان التيار المستنير آنذاك الطرف الأضعف، بينما المتطرف والأصولي يكتب بأمان، ويكفّر بأمان، ويؤسس منصته بأمان، بل وقد يذهب لمناطق الصراع بأمان.
ساهم الجبري في قيادة التفاوض مع تنظيم «القاعدة» عام 2003 بعد إعلان قائمة الـ19. رئيس المجلس العسكري لـ«القاعدة»علي الفقعسي له شهادة تلفزيونية مطولة، وقد عشتُ مع مجايلي قصة هذه المبادرة بحكم التخصص بهذا الملف، وكانت المبادرة تلك حدثاً خطيراً للغاية آنذاك؛ «القاعدة» تطرح «مطالب وشروطاً سياسية» والوسيط سفر الحوالي يعلن عن المبادرة من قناة «الجزيرة»!
أرى أن هدفين أساسيين قُصدا من هذه المبادرة وبهذا الشكل بالتحديد؛ أولهما، إعادة بعث شرعية رموز الصحوة بعد أن انفضّ عنهم السامر، إذ اتهمهم الأتباع بالانصياع للدولة، وتجديد مهامهم السياسية التي تتجاوز حدودهم الدعوية. والثاني: منح تنظيم «القاعدة» مشروعية نظرية عبر التفاوض معه سياسياً وكأنه حزب معارض، أو جمع له مطالب. رفض الأمير نايف آنذاك الوساطة واعتبر طرق تسليم المطلوبين لأنفسهم معروفة، لكن تيار الجبري أصر على هذه الفعلة، ولم تسفر عن شيء إلا أن سلم الفقعسي نفسه وخضع لأحكام القضاء وقصته معروفة.
لقد قابلتُ في مناسبات متعددة قيادات الصحوة بعد سجنهم ومنذ عام 2003 وما تلاه، كان الزهو يملأهم بأن الوسطية التي اختطوها هي المناسبة للمجتمع، ويزعمون أن الصراع بين الطرفيْن، بين العلمانيين والإسلاميين، يجب أن يتوقف، وحين يتحدثون بأن الدولة راضية عن خطابهم إنما يحاولون كسر التنوع الفكري.
لقد ركب موجتهم أدباء ونقاد دافعوا عن الصحوة ورموزها، ولكنهم لا يعترفون بأخطائهم.. يعتقدون أنهم أحكم خلق الله، وهم جهلة في الإسلام السياسي وأحابيله، بل سرعان ما يرتدون فكرة أخرى نقيضة من دون إحساسٍ بالحرج أو ضرورة الإيضاح، والكارثة أن الاغتباط بالذات، وادعاء الحكمة مسيطرة عليهم رغم جهلٍ فظيع في كتاباتهم السياسية حتى عن إيران والصحوة و«الإخوان»، والأهم أن دفاع هؤلاء عن الصحوة متلفز ومتاح.
لا شك أن مراوغة قوية اتبعها رموز الصحوة آنذاك، وحافظوا على استراتيجية تتناول ما يُظن أنه تغير أو تطور، يرصدهم من يعرفهم من «لحن القول»، أما الكلام الطويل، أو ما سميته بـ«الثرثرة حول التغيير» في مقال بجريدة «الحياة» عام 2009 لم يكن سوى وسيلة لتأمين الحضور ومحاولة استرداد الجمهور، عبر الموضوعات المفضلة لديهم والمملة: «التغيير، وتطوير الذات، وأطلق العملاق الذي في داخلك، ومن القمقم إلى قمم النجاح» وسواها من عبارات «الإخوان» التنموية التي يعلمها من تابع أدبياتهم وكتبهم منذ عقود، ولم يملوا من ترديد هذه الدورات والعبارات الببغاوية في برامجهم وأنشطتهم، ولا يخجلون من كثر التوافر في شتى المنصات حتى في إعلانات الاتصالات، وبيع الأدعية عبر الرسائل النصية، ونشر قصف التهديد والوعيد على الجوال الذي يستقبلها رغماً عنك.
إنه تنظيم متكامل، وتيار مترابط، لقد آذوا الجميع ولم يحاسبهم أحد، حتى مَنّ الله تعالى على عباده بالأمير محمد بن سلمان، إذ أدرك مبكراً خطورتهم على تحقيق مفهوم الدولة. ولكن رغم كل سطوتهم وقوتهم لم يتوقف الكُتاب الشجعان عن مواجهتهم بحرب فكرية شعواء عبر مراكز الدراسات والكتابات والبحوث والمحاضرات، وإلا لو استسلم الناس لهم ولميليشياتهم المدمرة لهلك الحرث والنسل، وطوبى لأولئك الكُتاب والباحثين الذين واجهوهم في ذروة تنفذهم، وإلا بعد تجريم تيارهم أو رفع الدولة الغطاء عنهم الكل سيدعي الفروسية.
فساد الجبري المادي معضود بدعمه المطلق لتيار أصولي متطرف مارق.
لقد كانت مرحلة صعبة من تاريخ السعوديين تسيد فيها المعاتيه المشهد، ولكن اليوم تطوى صفحات تلك المرحلة السوداء نحو مسارٍ آخر مختلفٍ من النهضة والتنمية والبناء بفضل قيادة الأمير محمد بن سلمان، قائد متفرد يعرف جيداً ما يحتاج إليه شعبه.