علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

المراغي بين البيومي ومحمد محمد حسين

قال محمود جبريل لأنور الجندي: عندما عاد المراغي إلى مصر، واشتغل بالقضاء كانت هناك قضايا اجتماعية تتعلق بالأسرة وحقوقها، لم يجد القضاة لها حلَّا في التشريع المعمول به، فأخذوا يجأرون بالشكوى مما يلاقونه من الحرج في التزام مذهب أبي حنيفة في التطبيق... وعلى أثر صدور حكم إحدى محاكم الوجه القبلي في موضوع نفقة لزوجة غائب في أبريل (نيسان) سنة 1930 وضع أول قانون في تاريخ القضاء الشرعي الحديث عدل به عن مذهب الإمام أبي حنيفة إلى مذهب الإمامين مالك والشافعي، وشمل هذا القانون مسائل الاعتداد والتطليق بسبب الإعسار والغيبة، والتفريق بسبب العيوب التي لا يمكن البرء منها، وما يتبع بشأن زوجة المفقود، وهو القانون رقم 25 سنة 1930، الذي صدر في يوليو (تموز) ذلك العام. وبه وجد القضاة المخرج من الحرج الذي كانوا يتعرضون له عند الفصل في هذه الخصومات، فقد عالج القانون مسائل الطلاق والضرار والتحكيم والتعليق على المسجونين، دفعاً للضرر ووقاية الأخلاق، كما عالج مسائل النسب.
وأخبر محمود السيد سكرتير مكتب المراغي، أنور الجندي، في هذا الشأن: أن المراغي كان مجدداً في كل عمل تولاه، قاضياً، مفتشاً للمساجد، رئيساً للمحكمة، وكان من أهم ما شغله مسألة الأسرة، والتطرف في بعض المذاهب، ومن هذه المسائل التي عني بها وعالجها: أولاً، كانت تستطيع المطلقة أن تحصل على نفقة مدى الحياة ما دامت تدعي أن عدتها لم تنقض بعد. ثانياً، كانت المرأة التي غاب عنها زوجها لا تستطيع أن تتزوج إلى مدى بعيد. ثالثاً، كان ابن الابن (الحفيد) الذي يموت أبوه في حياة أجداده، يحرم من الثروة، لا لسبب إلاّ لأن أباه كان قصير الأجل.
الخلاصة أن الشيخ، لإصلاح المشكلات والعيوب المستعصية في أمور الأسرة المصرية، أمر بتشكيل لجنة أطلق عليها لجنة تنظيم الأحوال الشخصية برئاسته.
كما أخبر المصدر الأخير، أنور الجندي، أن الشيخ المراغي افتتح اجتماعات اللجنة بكلمة ضافية بيّن فيها مهمتها. ومما قاله: إن إصلاح القانون إصلاح لنصف القضاء، أما النصف الآخر فهو بيد القاضي نفسه، لأن عليه أن يفهم الوقائع أولاً كما هي، بعد تلمس أدلتها ونقدها والموازنة بينها.
بعد هذين النقلين من المصدرين السابقين، يقول أنور الجندي: ومما روي أن الإمام كان يقول لأعضاء اللجنة: ضعوا من المواد ما يبدو لكم أنه يوافق الزمان والمكان، وأنا لا يعوزني بعد ذلك أن آتيكم بنص من المذاهب الإسلامية يطابق ما وضعتم.
هذا القول الذي قاله الشيخ المراغي لأعضاء اللجنة، عدّه أنور الجندي، أنه هو بذور «الإمامة» في المراغي وعلامات «الاجتهاد». ومعنى قول المراغي في السياق الذي أوضحناه، والذي ورد فيه أنه بحسب المواد القانونية التي تضعونها والتي تراعي مقتضيات الزمان والمكان، أو بتعبير آخر فقه النوازل، فإنني أستطيع أن أجد من أحكام مذاهب الفقه الإسلامي أيسرها وأوفقها لتتطابق مع ما وضعتم.
قال هذا لأعضاء لجنة تنظيم الأحوال الشخصية، لسعة اطلاعه على المذاهب الفقهية، ولأنه يملك أدوات الترجيح فيما بينها.
وقوله السالف يشير إلى قضيتين مهمتين، وهما: عصريته الدينية وإقدامه على التجديد الفقهي. وتحرريته الفقهية، فهو لم يكن مأسوراً لمذهبه الفقهي، وهو المذهب الحنفي الذي ينتمي إليه، ومتعصباً له، بل هو صاحب اختيارات فقهية. فقوله السالف يدعو إلى الاجتهاد من دون التقيُّد بمذهب فقهي بعينه، ونبذ الجمود والتقليد. والتقليد، كما في التعريف العام، هو تلقي الأحكام من إمام معين، واعتبار أقواله كأنها نصوص من الشرع يلزم المقلد باتباعها. والقضية الأخيرة، قضية التعصب المذهبي، عانى منها علماء سنة منذ القرن الثالث الهجري إلى وقت متأخر من القرن الماضي، وكانت السبب في ظهور دعوة اللامذهبية التي وضع أسسها الشيخ المحدث ناصر الدين الألباني.
تدليس محمد محمد حسين أنه أوهم القارئ، أن المراغي قال ذلك القول للإنجليز، لا لأعضاء لجنة تنظيم الأحوال الشخصية التي يرأسها!
تحامل محمد محمد حسين على المراغي وتدليسه عليه يرجع إلى أنه - كما أشرت في المقال السابق - حينما أعد الجزء الثاني من كتابه «الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر»، كان قد حصل له تحول فكري انقلب فيه إلى زمّيت إسلامي، فأعاد النظر في الشيخ محمد عبده وفي اتباع مدرسته. والشيخ محمد مصطفى المراغي من أتباعها. واتهامه لمحمد عبده وللمراغي بالعمالة للإنجليز في هامش من صفحات الجزء الثاني من كتابه، جاء في معرض حديثه عن المطالبات بإصلاح الأزهر التي بدأت عام 1925، بإدخال شيء من نظام التعليم الحديث إلى نظامه التعليمي التقليدي العتيق، التي أدانها وألقى عليها شبهات سياسية وفكرية زائفة. نصرة لأنصار التعليم القديم في الأزهر، ونصرة لمذهبه في أن يبقى الأزهر كما هو في تعليمه، وفي تقاليده، ورسومه، استمراراً أميناً لفكرّية القرون الوسطى، رغم أنه من أبناء التعليم الحديث، ولا صلة له بالتعليم الديني التقليدي في أي مرحلة من مراحل تعليمه ما قبل الجامعي، والجامعي ومرحلة الدراسات العليا.
هذا التناقض الصارخ الذي وقع فيه هو من جنايات التحول الفكري الحاد.
الاختلاف الثاني مع محمد رجب البيومي، الذي تصدى في الجزء الأول من كتابه «النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين»، حين ترجم للشيخ المراغي، للرد على ما قاله محمد محمد حسين وعلى إسلاميين رددوا ما قاله، تجاهله في الجزء الرابع من كتابه، وهو يترجم للشيخ محمد الأحمدي الظواهري، أن هذا الشيخ هو الذي تحدث باستفاضة عن صلة الشيخ المراغي بالإنجليز، وعن تاريخها الدقيق، وعن مساهمتهم في التعيين الأول وفي التعيين الثاني له شيخاً للأزهر، وذلك في مذكراته «السياسة والأزهر» التي كانت من مصادره في ترجمته للشيخ الظواهري!
هذا التجاهل يحتاج إلى تفسير شارح.
الأديب والناقد محمد رجب البيومي، ذو توجه إسلامي معتدل. وكانت تبدر إشارات منه في بعض كتبه الإسلامية، تظهر أنه يختلف مع منحى استشرى بين الإسلاميين، ابتداءً من سبعينات وأول ثمانينات القرن الماضي، اختلافاً قوياً ولا يخفي ضيقه به، ولكنه مع هذا الاختلاف القوي مع أصحاب هذا المنحى وضيقه بمنحاهم كان لا يسميهم. لأنهم من أهل الاتجاه الإسلامي!
ومع أنه ذو توجه إسلامي معتدل إلى أنه يحتفي ويمجد غلاة الإسلاميين الأولين، كالمودودي وأبي الحسن الندوي وسيد قطب، ويزكي مقولاتهم ولا يواجهها بالتحفظ أو شيء من النقد مثلما ما يفعل مع غلاة الإسلاميين المتأخرين الذين يتحاشى ذكر أسمائهم.
هو يعرف أن أستاذ الأدب العربي، محمد محمد حسين، وكتابه المرجعي «الاتجاهات الوطنية في الأدب العربي» وكتبه الإسلامية، هما المسؤولان عن نشأة ذلك المنحى عند الإسلاميين واستشرائه بينهم، ومع أنه يعرف هذه المعلومة حق المعرفة إلا أنه اكتفى بإشارة مبهمة إليه، لم يذكر فيها حتى توجهه الفكري فهو قد قال عنه: كاتب متسرع. فنلمس في هذا الوصف أنه تحرّج من تحديد هويته الفكرية، وكان الأنسب والأقرب للوضوح أن يصفه بكاتب إسلامي متسرع.
وهو يعرف أن مذكرات الشيخ الظواهري «السياسة والأزهر» غير مسؤولة عن القدح بصلة المراغي بالإنجليزي، لأنها ذات طبعة نافدة. ويعرف أنها في الأصل لم تكن متداولة بين جيل «الإخوان المسلمين» في الأربعينات والخمسينات (المذكرات نشرت عام 1945، والبيومي ذو نشأة وعاطفة إخوانية واللتان تخلى عنهما مؤقتاً في عهد جمال عبد الناصر)، ويعرف أنها لم تكن متداولة في نسخة مصورة عن طبعتها الأصلية بين الإسلاميين في عقود سالفة.
وهذا الأمر سهَّل عليه غض النظر عن حديث الشيخ الظواهري المفصل عن صلة خصمه المراغي بالإنجليز وتجاهله.
ولقد استرعى انتباهي أن محمد محمد حسين حين حديثه عن دعوة الداعين لإصلاح الأزهر، وتأليف لجان من أجل هذا الغرض منذ سنة 1925، وعن تعيين المراغي شيخاً للأزهر عام 1928، وعن ثورة الأزهر التي طالبت بإقالة الظواهري من مشيخة الأزهر وعودة المراغي لمشيخته، أنه لم يذكر في هذه الأحداث اسم الشيخ الظواهري البتة. ولم يرجع إلى مذكراته حين اتهم المراغي بصلته بالإنجليز اتهاماً مشيناً.
السبب في ظني، لأن الظواهري هو الآخر من تلاميذ محمد عبده. وفي مذكراته يعتز ويفخر بأنه من تلاميذه. ولأنه لم يكن معادياً للإنجليز، وهذا هو السبب الأهم. بل هو أثنى على طريقتهم في حكمهم لمستعمراتهم. فانتقاده لهم كان انتقاداً إجرائياً يقوم على أنهم تخلوا عن سياستهم المعهودة في حكم مصر، وأحدثوا فيها تغييراً منذ تعيين السير جورج أمبروز ليود مندوباً سامياً للحكومة البريطانية في مصر عام 1925.
يقول عنهم تحت عنوان «الإنجليز ورجال الدين»: «قوم لهم في فن الحكم طرائق معروفة، وقد درجوا في جميع معاملاتهم مع شعوب البلاد المملوكة لهم، أو المحكومة بهم، أو التي تحتل أرضهم قوات إنجليزية، أن يسلكوا نحو دين تلك البلاد المحتلة ونحو عاداتها القومية مسلكاً خاصاً معروفاً، يبرزهم عن بقية المستعمرين الآخرين من ممالك أوربا القوية. أما هذا التقليد، فهو الابتعاد ما أمكن عن التدخل في شؤون الناس الدينية ومعتقداتهم، ثم التباعد ما أمكن أيضاً عن المساس بتقاليد هؤلاء الشعوب وعاداتها. إجراء حكيم وسياسة موفقة، تتفق مع ما يرومه أهل الحكم والسياسة في مصر من ابتعاد الإنجليز عن أمور الدين الإسلامي. وقد جرى الأمر على هذا المنوال منذ أن دخلت الجنود البريطانية أرض مصر محتلة في سنة 1882. فلم يكن لمندوب بريطانيا في مصر... ليتدخل في شأن من شؤون الأزهر أو الدين الإسلامي بتاتاً، وبالتالي لم يكن تعيين شيخ الجامع الأزهر أو باقي الرؤساء الدينيين ليدخل في نطاق النفوذ الإنجليزي، وكان حق اختيار هؤلاء جميعهم وفصلهم وتأديبهم موكول للخديوي وقت أن كانت مصر خديوية، وللسلطان وللملك بعد أن صارت سلطنة ثم مملكة. وكان هذا التباعد عن شؤون الدين من الجانب الإنجليزي يقابل من الشعب المصري قاطبة بالارتياح العام، فحرية الدين عند المصريين، واستقلاله عن النفوذ الأجنبي، صار في نفوسهم أمر مقرراً وعقيدة مقدسة». وللحديث بقية.