الياس حرفوش
صحافي وكاتب سياسي لبناني، عمل مسؤولاً في القسم السياسي في مجلتي «الحوادث» و«المجلة»، وكان له مقال أسبوعي فيهما. كما عمل في صحيفة «الحياة» التي شارك في إدارة تحريرها، وكان كاتباً ومشرفاً على صفحات «الرأي» فيها. أجرى العديد من المقابلات مع شخصيات عربية ودولية، وشارك في حوارات ومقابلات تلفزيونية معلقاً على أحداث المنطقة.
TT

الهويات القاتلة لحياد لبنان

ليس حديث الحياد الذي نسمعه في لبنان هذه الأيام جديداً على هذا البلد، ولا هذه الدعوات غريبة عما كان يطالب به كثيرون من السياسيين منذ استقلال لبنان عن الانتداب الفرنسي سنة 1943 إلى اليوم. الصراع على هوية لبنان وانتمائه كان رفيقاً دائماً لكل المحطات السياسية المفصلية في التاريخ اللبناني. بين أدعياء الثقافة الغربية وأولئك المطالبين بأن يقتصر الانتماء على الهوية العربية. حتى هذه المسألة بقيت عالقة بين كونه بلداً عربياً أو أنه «ذو وجه عربي» إلى أن حسمها أخيراً اتفاق الطائف.
في سياق هذا الجدل المفتوح تأتي دعوة البطريرك الماروني بشارة الراعي لتحيي الفكرة التي نشأ عليها الكيان اللبناني، وتمثلت بما سمي آنذاك «الميثاق الوطني» الذي تفاهم عليه بشارة الخوري، أول رئيس للجمهورية بعد الاستقلال، ورئيس الحكومة الأولى رياض الصلح. نص ذلك الميثاق في أحد بنوده على أن «إخواننا في الأقطار العربية لا يريدون للبنان إلا ما يريده أبناؤه الأباة الوطنيون. نحن لا نريده للاستعمار مستقراً وهم لا يريدونه للاستعمار إليهم ممراً. فنحن وهم نريده وطناً عزيزاً مستقلاً سيداً حراً».
منذ ذلك الزمن بدأت المحاولات لجمع الأضداد اللبنانية على أرضية مشتركة ترضي الأكثرية في الداخل ولا تشكل تهديداً للجوار. كان قسم كبير من المسيحيين في لبنان في ذلك الوقت، يقودهم رئيس سابق للجمهورية هو إميل إده، عرفوا بالكتلويين، يحنون إلى البقاء في ظل حكم الانتداب الفرنسي، في حين كان قسم من المسلمين يفضل الإبقاء على علاقات وثيقة مع سوريا التي لم تكن قد استقلت بعد. لذلك كانت الصيغة التي بنى عليها الخوري مشروع الاستقلال محاولة لتكوين هوية وطنية مشتركة من بين ركام الخلافات والصراعات الداخلية. وأطلقت تلك الكتلة على نفسها اسم «الدستورية» لتأكيد ولائها للدستور الجديد.
محاولة جمع الأضداد والحياد عن الصراعات ظل الهم الأساسي كلما تعرض لبنان لصدمة وطنية أو لأزمة صعبة مثل التي يمر بها اليوم. بلد ولد من رحم التناقضات وظل في حاجة مستمرة إلى عمليات ترميم داخلية. وما يدعو إليه البطريرك الراعي اليوم يسير على خطى تلك المحاولات. لو استعدنا كلامه لوجدناه يردد بالنص تقريباً ما ورد في الميثاق الوطني: دعوة إلى التزام القضايا العربية المشتركة من دون الدخول في صراعات سياسية وعسكرية أو الدخول في أحلاف. ودعوة الأمم المتحدة إلى العمل على تطبيق القرارات الدولية وإعادة تثبيت استقلال لبنان وإعلان حياده. بكلام آخر، يدعو البطريرك إلى أن يعود اللبنانيون إلى تدبير شؤونهم الداخلية من دون مشاركة أي من أحزابهم في تحالفات أو مشاريع تشكل خطراً أو تهديداً لمصلحة بلدهم أو لمصالح الدول العربية المجاورة.
منذ عهد الاستقلال الأول إلى عهود الحكم اللاحقة بقي اللبنانيون حائرين ومنقسمين أمام مسألة الانتماء والهوية.
في عهد الرئيس كميل شمعون الذي تلى عهد بشارة الخوري، اتجه الحكم إلى الانفتاح على «حلف بغداد» في وجه التيار العروبي الذي كان يقوده الرئيس جمال عبد الناصر وكان يواليه قسم كبير من المسلمين. سجلت تلك الفترة أول زيارة قام بها شاه إيران إلى لبنان سنة 1957 والتي تلت إعلان قيام العلاقات الدبلوماسية بين إيران ولبنان.
انتهى عهد شمعون بصراع دموي داخلي سنة 1958 عُرف بالحرب الأهلية، وكان نسخة مصغرة عما سيشهده لبنان بعد 17 عاماً. أعقب ذلك انقلاب الرياح السياسية ومجيء الرئيس فؤاد شهاب إلى رئاسة الجمهورية في ظل تفاهم أميركي - مصري، بعد موقف إدارة الرئيس دوايت أيزنهاور ضد الثلاثي البريطاني – الفرنسي - الإسرائيلي في حرب السويس. ضغطت إدارة أيزنهاور على كميل شمعون لعدم تجديد ولايته ممهدة الطريق لوصول شهاب الذي استطاع أن يحكم تحت مظلة إقليمية دولية أمنت للبنان ست سنوات من الاستقرار الداخلي وبناء معظم المؤسسات الإدارية. غير أن الصراع على الهوية ظل محتدماً من قبل من اعتبروا (من المسيحيين خصوصاً) أن حكم شهاب كان «ناصرياً»، وانتهى ذلك بهزيمة الحكم الشهابي الذي كانت رئاسة شارل حلو امتداداً له، وانتصار ما عرف بـ«الحلف الثلاثي» الذي ضم قادة الأحزاب المسيحية الرئيسية آنذاك (كميل شمعون وبيار الجميل وريمون إده)، وأمن سنة 1970 وصول الرئيس سليمان فرنجيه إلى رئاسة الجمهورية.
رافق وصول فرنجيه إلى الرئاسة حدث مهم في جنوب لبنان تمثل باتفاق القاهرة الذي كان قد تم توقيعه في العاصمة المصرية برعاية الرئيس عبد الناصر بين منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات وقائد الجيش اللبناني آنذاك إميل بستاني. مهد ذلك الاتفاق لمنح المقاومة الفلسطينية حرية الحركة على الحدود الجنوبية مع إسرائيل، وهو ما أدخل لبنان في قلب ذلك الصراع، وشكل الشرارة التي مهدت للحرب الأهلية سنة 1975 التي استمرت 15 سنة وانقسم اللبنانيون خلالها، مرة أخرى، بين موالٍ للمقاومة الفلسطينية ورافض لعملياتها على الحدود وتدخلها في الشأن اللبناني.
انفجار أزمات المنطقة الذي أعقب الحرب اللبنانية بسبب الدور الإيراني الصاعد، دفع كثيرين من السياسيين إلى رفع شعار أطلقوا عليه «النأي بالنفس» في محاولة لإبعاد ذيول تلك الأزمات عن الداخل اللبناني. وكان أخطرها تدخل «حزب الله» في الحرب السورية ودعمه الانقلاب الحوثي في اليمن، إضافة إلى حملاته الإعلامية المستمرة على الدول العربية، متبعاً نهج السياسات الإيرانية.
لكن نفوذ «حزب الله» يجعل تحقيق حياد لبنان أكثر صعوبة من أي وقت. فطوال مراحل الانقسام بين اللبنانيين حول الولاءات الخارجية لم تنعكس تلك الولاءات على علاقات لبنان العربية مثلما هي اليوم. ذلك أن هيمنة أي من الأطراف اللبنانية على سلطة الدولة لم تصل إلى ما بلغه «حزب الله». القوة المسلحة للحزب توازي إن لم تفق قوة الجيش الشرعي، والنفوذ الذي نجح في فرضه على المؤسسات في عهد الرئيس ميشال عون يجعل من الصعب على أي دولة عربية من خارج «محور الممانعة» أن تتعاطى مع السلطات اللبنانية على أنها مستقلة عن سلطة «حزب الله».
من هنا تفهم دعوة البطريرك الراعي لتحييد لبنان عن صراعات المنطقة على أنها دعوة للدولة لمحاولة استعادة هيبتها وحرية قرارها، ودعوة لـ«حزب الله» ولمناصريه لأن يراعوا المصلحة اللبنانية التي تضررت بسبب ولائه لأهداف إيران ومصالحها، في حين هي تخوض حروبها في أربع دول عربية ضد شعوب هذه الدول وضد ما تقتضيه مصالحها الوطنية.