فيتالي نعومكين
رئيس «معهد الاستشراق» التابع لأكاديمية العلوم الروسية/ موسكو
TT

«آيا صوفيا» والعلاقات الروسية ـ التركية

يواصل السياسيون والشخصيات الدينية والخبراء في جميع أنحاء العالم مناقشة قرار الرئيس التركي بتغيير وضع كاتدرائية آيا صوفيا في إسطنبول. على الرغم من أن رجب طيب إردوغان وعد بأنه سيكون بإمكان أي شخص يريد الدخول إلى المتحف، الذي تحول إلى مسجد، القيام بذلك كما في السابق ومن الآن وصاعداً مجاناً، يخشى الكثيرون من أن يؤثر قرار أنقرة سلباً على الحوار بين الأديان والحضارات.
بالنسبة لروسيا، حيث يعيش ثلث جميع المسيحيين الأرثوذكس في العالم، فإن أكبر كنيسة أرثوذكسية في العالم في الماضي لها أهمية تاريخية مقدسة وخاصة. لقد دُهشت الأميرة أولغا، خلال رحلتها إلى القسطنطينية في القرن العاشر، بجمال كاتدرائية القديسة صوفيا وتم تعميدها هناك. أما حفيدها الأمير فلاديمير، فهو من قام بنقل روسيا إلى الأرثوذكسية.
ليس من قبيل الصدفة أن الكنيسة الروسية الأرثوذكسية، بعدما علمت بخطط الرئيس التركي، مع مراعاة الطبيعة الودية للعلاقات بين روسيا وتركيا، وكذلك التركيبة متعددة الأديان والقوميات لسكان روسيا وأهمية الصداقة مع العالم الإسلامي بالنسبة لها، كانت قد حثت مع السياسيين الروس إردوغان على عدم التسرع في اتخاذ القرار. لكن الدعوات الودية لم تسفر عن نتيجة. لم يأمل أصحاب الدعوات (التي جاءت من جميع أنحاء العالم) حقاً في أن يتم سماعهم، نظراً لمعرفتهم بحسم إردوغان وعناده، بالإضافة إلى حقيقة وجود دعم تركي لقراره، لكنهم مع ذلك أصيبوا بالإحباط من رفض الرئيس التركي الاهتمام برأيهم.
يدور الجدل في روسيا حول الأسباب وراء قرار نقل «المتحف»، الذي كان رمزاً عالمياً للأخوة بين الأرثوذكسية والإسلام، إلى رئاسة الشؤون الدينية. كما الحال في العديد من البلدان الأخرى، فإن وجهة النظر السائدة هي أن الأسباب كانت سياسية وليست دينية. سأطرح بعض الذرائع. أولاً، حاجة إردوغان، بالاعتماد على الناخبين القوميين المحافظين، إلى اتخاذ خطوات لرفع مستوى شعبيته داخل البلاد في ظروف الوضع الاقتصادي الحالي الصعب، بالإضافة إلى شعبية حزبه على أبواب الانتخابات البرلمانية المقبلة. ثانياً، كان من المهم بالنسبة له توجيه ضربة قوية أخرى لمواقف منافسيه «الكماليّين» الضعيفة أصلاً. ثالثاً، انطلق من الحاجة إلى تعزيز موقفه في المساومة مع الشركاء الأجانب، حيث يحاول أن يظهر نفسه على أنه مستقل ومدافع بقوة عن كونه زعيماً وطنياً. رابعاً، انطلق من حقيقة أن الوضع الآن ملائم كي يحاول تحقيق نزعته في تولّي دور قيادي. ولا شك أن يوظف موقفه من الفلسطينيين في تجسيد هذا الجزء من الخطة الطموحة.
ليس من قبيل الصدفة أن يستغل المؤلفون الأتراك الذين يدعمون إردوغان، رداً على التعليقات الانتقادية من قبل السياسيين الأميركيين، قرار ترمب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل. ويقولون إنه نتيجة لذلك لا يحق للولايات المتحدة إدانة الأتراك على ما يفعلونه في بلدهم. لقد انتقد الرئيس التركي حينها قرار سيد البيت الأبيض. لا يخشى إردوغان انتقاد الشركاء في العالم الإسلامي. ليس من قبيل الصدفة ما قاله المتحدث الرسمي باسم إردوغان إبراهيم قالن، بالتزامن مع قرار تغيير وضع آيا صوفيا، إنه كان ينبغي على جامعة الدول العربية إيلاء مزيد من الاهتمام للقضية الفلسطينية، بدلاً من اتخاذ قرارات ضد تركيا. وفي الوقت نفسه، ذكر أن تصرفات الدول العربية ضد الخطة الإسرائيلية لضم الأراضي الفلسطينية «مواقف غير كافية».
يشير بعض المحللين إلى سبب آخر لقرار إردوغان. يعتقد رومان لونكين من معهد أوروبا التابع للأكاديمية الروسية للعلوم أن القرار مرتبط بالرغبة في إحياء الإمبراطورية، على الأقل السيطرة على تلك الأراضي التي كانت جزءاً من الإمبراطورية العثمانية، وبالتالي إحياء العظمة السابقة لتركيا.
السؤال الذي يطرح نفسه: هل يمكن لقرار إردوغان تحسين شعبيته داخل تركيا وخارجها؟ حول هذه المسألة، هناك مجموعة واسعة متباينة من الآراء بين المسلمين أكان في روسيا أو في العديد من البلدان الأخرى. جزئياً، نجح الرئيس التركي بالفعل في هذا الاتجاه، إذ إنه لاقى الدعم حتى من أولئك الذين في معسكر منافسيه من حزب الشعب الجمهوري. لكن هناك العديد من الانتقادات في العالم الإسلامي. مستشار مفتي الأزهر إبراهيم نجم وصف قرار إردوغان بأنه «لعبة سياسية خطيرة». ولكن كيف سيؤثر ذلك على مستقبل الحفاظ على السلام بين الأديان؟ حذر بطريرك القسطنطينية بارثولوميو، الذي يتجنب عادة الانتقاد لقيادة بلاده إذ يعتمد على حسن العلاقة معها في العديد من النواحي، من أن الخطوة التي اتخذها إردوغان يمكن أن تدمر التوازن الهش أصلاً بين الأديان في العالم: «كاتدرائية القديسة صوفيا هي مكان مقدس، حيث يلتقي الشرق بالغرب، يمكن لخطوته أن تقسم هذين العالمين في اللحظة نفسها التي تحتاج فيها البشرية، والتي تعاني من جائحة فيروس كورونا القاتل، إلى الوحدة والمبادئ التوجيهية المشتركة».
في روسيا، تسببت الأحداث في رد فعل سلبي من قيادة الكنيسة الأرثوذكسية الروسية. وقال رئيسها، قداسة البطريرك كيريل، إن قرار الرئيس التركي «سيسبب ألماً عميقاً لدى الشعب الروسي»، وهو تهديد «للحضارة المسيحية» بأكملها، وكذلك «لروحانية وتاريخ روسيا». وقال رئيس قسم العلاقات الكنسية الخارجية، المطران هيلاريون، إن «مثل هذا القرار يبدو كأنه تصعيد متعمد للعلاقات بين الأديان - في تركيا وحول العالم. لست أنا من يحدد الأشخاص المسؤولين عن ذلك؛ التاريخ هو الذي سيحددهم».
كرر نواب مجلس الدوما بالجمعية الفيدرالية للاتحاد الروسي رأي رجال الدين. حيث أكد رئيس لجنة الشؤون الدولية ليونيد سلوتسكي، أن «كاتدرائية القديسة صوفيا بقيت لقرون، عبر الزلازل والحرائق والدمار، رمزاً للصمود والحصانة ووحدة الإيمان المسيحي والعالم المسيحي». فياتشيسلاف نيكونوف، وهو سياسي معروف، ورئيس لجنة التعليم، عبّر بحدة في قوله: «بصراحة، كان لدي انطباع أفضل حول النخبة الحاكمة في تركيا. أنا شخصياً لن أذهب إلى تركيا بعد الآن». يعتقد نيكونوف أن روسيا الحالية هي وريث بيزنطة و«روما الثالثة»، وهي تصرخ: «إردوغان، كن جديراً بأتاتورك!»، لكن من غير المحتمل أن يثير هذا النداء إعجاب الرئيس التركي. أما نائب رئيس مجلس النواب، رئيس الحزب الديمقراطي الليبرالي لروسيا والمتخصص بالعلوم التركية، فلاديمير جيرينوفسكي، الميال بشكل خاص للشعبوية، فقد انهال بالانتقادات الحادة على إردوغان، الذي كان مؤخراً يتفاوض معه.
كان غريباً بعض الشيء أن نسمع نداءات متطرفة من قادة حزب الشيوعيين الروس، الذين كانوا أثناء وجودهم في السلطة في القرن الماضي مسؤولين عن تدمير بعض دور العبادة من جميع الأديان. بالطبع، إنهم اليوم ينأون بأنفسهم بشكل حاسم عن هذه الأعمال التي قام بها أسلافهم، ويحث نائب رئيس الحزب، ياروسلاف سيدوروف، الروس على «رفض السفر إلى تركيا حتى تقوم سلطات هذا البلد بإعادة الكاتدرائية إلى وضعها السابق كمتحف». بما أن السلطات التركية، حسبما يعتقد، لم تأخذ في الاعتبار النداءات المتكررة من المنظمات الروسية وغيرها من المنظمات الدينية والثقافية والعلمية والإنسانية، فيجب أن يكون الرد حاسماً من موسكو. لكن الروس، على أي حال، سيسافرون إلى تركيا.
مسألة أخرى تجري مناقشتها أيضاً: ماذا سيحدث للجداريات الفريدة للمسيحيين التي تم إنشاؤها منذ أكثر من ألف عام. يتساءل كثيرون: هل سيتم كسوتها بالطين مرة أخرى أم تغطيتها بستائر أم تفكيكها ونقلها إلى مكان ما؟ كما أن «اليونيسكو» أيضاً تشعر بالقلق، إذ تدرج الكاتدرائية في قائمة التراث الثقافي العالمي. هل من الممكن أن نتوقع من الرئيس التركي أي تصحيح لمساره، من أجل تخفيف الانطباع عنه في الدول الصديقة له؟ باعتقادي أن مثل هذا الأمل لا يزال موجوداً.
السؤال الأهم هو إلى أي مدى يمكن للنقاشات التي تدور حول هذا القرار أن تؤثر بشكل عام على العلاقات الروسية - التركية الصعبة أصلاً. سأخاطر بالتوقع بأن القادة السياسيين للبلدين سوف يبذلون قصارى جهدهم لتقليل العواقب السلبية المحتملة للتوتر. إذ إن التعاون الروسي - التركي متعدد الأطراف مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمصالح الاستراتيجية للدولتين، وسيكون لمسار تطورها المستقبلي تأثيره على مصير شعوب الشرق الأوسط.