د. حسن أبو طالب
كاتب مصري، يكتب في «الشرق الأوسط» منذ 2019. يعمل حالياً مستشاراً بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وعضو الهيئة الاستشارية العلمية للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، مُحكم ومستشار أكاديمي في العديد من مراكز البحوث العربية والدولية، وكاتب صحافي في جريدة «الأهرام». عمل سابقاً رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة دار المعارف»، ورئيس تحرير «مجلة أكتوبر» الأسبوعية، ومدير «مركز الأهرام الإقليمي للصحافة»، ورئيس تحرير «التقرير الاستراتيجي العربي» الذي يصدره مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، ونائب رئيس تحرير «الأهرام».
TT

شرق المتوسط في زمن الاضطراب

في بيان وزارة الدفاع التركية حول اعتزامها القيام بمناورات بحرية وجوية في ثلاثة مواقع قبالة الساحل الليبي، وُصفت بالقريبة، ذكرت السبب بالاستعداد للحرب في شرق المتوسط. لم يحدد البيان أطراف تلك الحرب وهل ستكون تركيا طرفاً مباشراً فيها أو مراقباً لها. مصر بدورها نفّذت مناورة بحرية جوية برية كبرى في الاتجاه الاستراتيجي الغربي بالقرب من الحدود الليبية، سُميت «مناورات الحسم»، تضمنت التدريب على استهداف تجمعات إرهابية وميليشيات قد تهدد الأمن القومي المصري. لم تقل مصر في وصف المناورة إنها تستعد لحرب، ولكن توقيتها له صلة بما أعلنه الرئيس السيسي من قبل عن الخطوط الحمراء في ليبيا ممثلةً في التعدي على كلٍّ من سرت والجفرة. وإجمالاً تمثل المناورة تجسيداً للاستراتيجية المصرية المستمرة منذ 2013 لمواجهة التجمعات الإرهابية سواء القادمة من غرب البلاد أو الشمال الشرقي.
حديث المناورات امتد أيضاً للإعلان عن مناورة بحرية بين فرنسا واليونان وإيطاليا، وأخرى قيد الترتيب بين واشنطن وقبرص. هدف الأولى هو التدريب على منع انتقال الأسلحة وتهريب الإرهابيين. أما مناورة واشنطن وقبرص فهي إشارة أميركية إلى أنها موجودة في الساحة. روسيا لم تعلن بعد عن نية إجراء مناورة في المنطقة، لكن المعروف أن لها قطعاً بحرية في قاعدة طرطوس السورية يمكنها أن تلعب دوراً في أي حدث طارئ إن قرر الرئيس بوتين أن هناك مصلحة مباشرة يمكن أن تجنيها بلاده من هذا التورط. كل تلك المناورات في منطقة وسط وشرق المتوسط، قبالة ليبيا أو بجوارها شرقاً، تدلل على أمرين متعاكسين؛ إما أن هناك حدثاً جللاً قيد الترتيب، وإما أن هذا الوجود البحري والجوي المكثف وغير المسبوق في اللحظة الزمنية ذاتها هو تطبيق حرفي لما تُعرف بسياسة «حافة الهاوية» والهدف منه محاصرة احتمالات الانزلاق الجماعي إلى حرب ضارية. بالطبع ليبيا هنا هي المحور، لا سيما المطامع التركية المعلنة لنهب ثرواتها النفطية والمالية، ومعها تهديد أمن مصر القومي والأمن الإقليمي وإشكالياته الكبرى لكلٍّ من الجزائر وتونس، حتى ولو تمسك الطرفان بالحياد والوقوف على مسافة واحدة من أطراف الصراع الليبي.
الصراع في ليبيا وحولها، ونية تركيا تعويض منظومة الدفاع الجوي والرادارات التي تم تدميرها في قاعدة الوطية جنوب طرابلس قبل أسبوعين، عبر تركيب منظومة «إس 400» الروسية التي حصلت عليها نهاية العام الماضي، بالتفاهم مع واشنطن وموسكو، يقدم مؤشراً آخر على أن المنطقة ليست فقط في حالة سيولة واضطراب شديدين؛ بل إن القوى الرئيسية في العالم كواشنطن وموسكو تمرّان بحالة تخبط استراتيجي شديدة جداً، وهو تخبط يوفر لبعض القوى المغامرة كتركيا حرية حركة في أكثر من اتجاه من دون أي محاسبة، كما يحدث عياناً بياناً في رعاية الإرهابيين بمن فيهم المصنفون دولياً وتوظيفهم في المغامرات العسكرية التركية في شمال سوريا والعراق وليبيا واليمن، وكل تلك التحركات المُدانة قانونياً وأخلاقياً تحدث من دون أن تجد كلمة اعتراض واحدة من موسكو أو واشنطن، ما يعني مباركةً وموافقةً وليس تجاهلاً أو غض بصر. بل الأكثر من ذلك أن موسكو تسعى إلى ترتيب تقاسم النفوذ مع تركيا في ليبيا كما هو الحال في شمال سوريا، بينما إدارة الرئيس ترمب تتحدث عن أن دور تركيا المتصاعد في ليبيا واللاأخلاقي هو لمناكفة الدور الروسي هناك.
صحيح هناك مصالح كبرى بين روسيا وتركيا، ولكن هناك أيضاً مصالح كبرى بين روسيا ومصر والجزائر وسوريا والعديد من دول الخليج العربية، ما يضع تساؤلات رئيسية حول ما الذي تريده موسكو بالضبط؟ وهل ما ستفعله سيكون محل ترحيب من دول الجوار الليبي؟ في اعتقادي أنْ لا أحد في جوار ليبيا وبالأخص مصر سيقبل بنموذج شمال سوريا في ليبيا، ويقف ساكناً أمام وضع خطير يهدد أمن البلاد بصورة مباشرة، أو يقنن الاحتلال التركي لغرب ليبيا وتهديد شرقها.
الأمر على هذا النحو يشكل ضغطاً استراتيجياً على جوار ليبيا، ويطرح نظرياً تنسيقاً بين دول جوار ليبيا لوقف تلك التهديدات الماثلة في الأفق، لكن الواقع غير ذلك. فالتوجهات الإقليمية العامة متقاربة في العموميات ولكنها حذرة ومتوجسة في التفاصيل، ما يشكّل نقطة ضعف تصب في صالح المغامرة التركية بكل مخاطرها، والمطلوب قدر من الجرأة للتمرد على هذا الحذر غير المبرر.
ما يجري في ليبيا سيحدد إطاراً جديداً للتحالفات والصراعات التي سوف تستمر زمناً طويلاً، ما يعني أن الاضطراب الحالي مرشح للتحول إلى أزمة إقليمية دولية حادة، ستشكل بدورها تحالفات جديدة قد لا تخطر على بال أحد، وانقسامات جديدة في التحالفات والعلاقات الموجودة والتي تبدو جيدة على السطح، وفي عمقها مشكلات كبرى تضرب هذه التحالفات والعلاقات في الصميم. ولعل الدرس الأهم في كل ذلك الاضطراب هو أن غياب التنسيق العربي - العربي، والبحث عن أدوار لمجرد الحديث عن أدوار، أو للحد من نفوذ أو تأثير متوهَّم لطرف آخر، لا يشكّل فرقاً كبيراً في حماية المصالح الوطنية، وحتماً يضر بالمصالح المشتركة، بل يفاقم من التهديدات على النحو الذي نراه يتزايد وينمو.
شرق المتوسط ووسطه إنْ تحوّل إلى ساحة صراع ونزال عسكري مباشر سيكون له نتائجه الخطيرة على مصالح دولية كبرى، وليس فقط على أطراف هذا النزال المباشرين، أهمها حرية التجارة الدولية، وأمان الاستثمارات الدولية الهائلة في مجالي الغاز والنفط، والهجرة غير الشرعية، وأمن جنوب أوروبا ككل، والسياحة الدولية التي تتطلع إلى قدر من التعافي من آثار ضربة وباء «كورونا المستجد». أما ليبيا نفسها فسينالها العبء الأكبر؛ التقسيم والتشتت - لا قدر الله - إحدى أهم النتائج المحتملة، والعودة إلى مراحل النضال من أجل الاستقلال والسيادة ومواجهة الإرهابيين والمرتزقة سيكون عنواناً رئيسياً، والقوى الإقليمية التي تتصور أنها ستنعم بنهب ثروات ليبيا لن تجد الأمر كما تخطط، وستدفع ثمناً كبيراً ولو تطلب الأمر سنوات وسنوات.
المفارقة في كل هذه العناصر المحمّلة بالاضطراب ومسببات الحرب أن يسود خطاب دولي قوامه التمسك بالحل السلمي وأنْ لا بديل له. وهو موقف، أو لِنَقُلْ جملة مواقف بعضها القليل يُطرح بحق وعن قناعة، وبعضها الآخر - وهو الأكثر - يُطرح عن مناورة وخداع لا أكثر ولا أقل. أما فرصة الشعب الليبي في تحديد مصيره بنفسه فتبدو غائبة إلى زمن آخر، ينقشع فيه غبار الأزمة، وتفشل فيه بلا رجعة أوهام مشروعات استنساخ استعمار عثماني عبثي انتهى قبل قرن كامل ولن يعود أبداً.