وفيق السامرائي
ضابط متقاعد وخبير استراتيجيّ عراقيّ
TT

عراقيا.. العدل مقابل الأمن!

«صحيح ألا أحد يذرف دمعة إذا ما سقط النظام القائم في العراق، لكن سيبقى العرب في حسرة على العراق، إذا لم تنتق الوسائل وتتقن المسالك، وربما سيبكون دما، لأنه العراق بكل أهله وقدراته العظيمة».. بهذه الكلمات ختمت مقالا في جريدة «الشرق الأوسط» يوم 25 ديسمبر (كانون الأول) 2001. فهل حدث ما كنا نخشاه؟ أم أن تعدد مشكلات العرب أنستهم أهمية العراق؟ وهل فقد العراقيون بوصلة الإصلاح تحت ضغط المصالح الحزبية والتناقضات الفئوية التي تدعو الحاجة إلى قرارات حازمة لتجاوزها من دون التفات إلى أحد؟
وكلما نستطلع رأي العراقيين على نطاق واسع نصطدم بإحباط وجزع، وبمشاعر تدل على أن وطنية البعض أصبحت على المحك، والشعور باليأس فاق التصورات، وباتت أعداد الذين يتقبلون مصطلحات التهدئة وإشاعة الأمل قليلة، في ظل وضع أمني أصبح كابوسا، و«حديث» عن فساد أصبح الناجون منه في عداد «الصالحين»، وتزعزعت مبادئ الثقة المعتادة لدى الشعوب المحافظة، ولم يعد التدين صك براءة كما كان الوضع في عقود غبرت. وأيقنت أن المصطلحات والمفاهيم التي راجت بعد 2003 لم تكن، أو لم تعد، صالحة للعراقيين، في ظل وضع يحتاج إلى «حاكم أو فريق حكم قوي وعادل» ضمن نمط ديمقراطي متوازن، وهو الشعار الذي كنت أدعو إليه في فترة المعارضة قبل 2003، مع قوات مسلحة وطنية محايدة تضمن حماية المفهوم الجديد للحكم.
حدث الذي حدث، ولا جدوى من اجترار الأقوال والأفعال السابقة. فالوضع العراقي في حاجة لانتشاله مما هو فيه، وهي مهمة عراقية، تزداد فرص نجاحها إذا ما تحسنت فرص الدور العربي والإقليمي. ومع أن النظام الحالي قام بخطوات إيجابية قياسا إلى سلوك وممارسات وقوانين وأنظمة النظام السابق، خصوصا فيما يتعلق بحقوق الناس المالية وهامش الرأي الكبير قياسا حتى مع دول كثيرة، فالقضية لا تزال في حاجة لإجراءات تخرج عن السياقات التقليدية المرتبطة بمراعاة مشاعر بعض المتوافقين أحيانا، وأقرب ما تكون إلى القرارات الثورية ضمن أطر الإصلاح.
فرص تحقق الأمن ممكنة للغاية تحت سقف قرارات مصالحة تخرج عن السياقات الدارجة حتى الآن، مع ضرورة التخلص دفعة واحدة من التصنيفات الطائفية والعرقية وما يتبعها من عناصر اختلاف وتمييز كبيرة تثير مشاعر إحباط يسهم في إضعاف مشاعر الإحساس بالعمل المشترك والحياة المشتركة، وهو ما يعني ضرورة تطبيق العدل والمساواة والإنصاف، ويبقى الإنصاف سيد القوانين، فمهما قيل عن تشريع القوانين تبقى مشروعيتها مرتبطة بدرجة الإنصاف التي بنيت عليها.
الخروقات الأمنية المتكررة تعطي دليلا على أن حزم الإصلاح لا تزال في حاجة لقوة دفع قوية، يمكن لفريق حكم متجانس اتخاذها، وهنا يقع لوم على الذين أبقوا المسميات الطائفية قائمة في مرحلة تكوين تحالفات تشكيل الحكومة الحالية ولا أستثني «الكتلة العراقية» التي لم تنجح في تبني سياسة واقعية للخروج من المأزق، فأضاعت فرصة إحداث تطور ديمقراطي بتقديم تنازلات فرضت عليها لاحقا.
لقد خسر العراقيون والفقراء والأبرياء منهم خاصة، خبرات الأمن والاستخبارات المتراكمة، نتيجة الضوابط المرتبطة بسياسة المساءلة والعدالة التي تحولت إلى مطالب «العزل السياسي». كان يمكن أن يسهم آلاف ضباط الأمن والاستخبارات وقادة الجيش في إعادة بناء المؤسسات الأمنية والعسكرية بكفاءة عالية، إلا أن الكتل السياسية - بما في ذلك المحسوبة بقربها على المنظومات السابقة – بقيت حساسيتها عالية تجاه معظم ما هو مرتبط بالسابق، على عكس التجارب في دول أخرى حافظت كليا على مؤسساتها، أو حتى نسبيا مثل إيران.
الشعور بالمواطنة المتساوية، ومنع خطب التحريض الطائفي من الطرفين، وضرب الفساد بقوانين تحافظ على أموال الشعب، والاستفادة من الخبراء العراقيين، وتشريع قوانين حماية البلاد بدل الاختلاف على قوانين يمكن تأجيلها إلى أجل غير محدد، ومنع ثقافة الكراهية، عناصر تسهم بقوة في بلورة مرحلة انتقالية سريعة من حالة عدم الاستقرار إلى مرحلة الالتزام من المستوى الفردي إلى الكتل السياسية وصولا إلى الهياكل الاجتماعية لإعادة بناء العلاقات الأصيلة بين كل الشرائح. ومن المنطق القبول بمبادئ تعزيز متقابل، فعندما نقول الأمن مقابل العدل لا يعني مقايضة تفاوضية بين طرفين خارجيين، بل حالة تفاهم ضمن إطار مجتمعي على أسس أسرية.