إنني من الداعين إلى التعاون الوثيق بين شطري البحر المتوسط من منطلق أنه يمثل مصلحة استراتيجية مشتركة لكل من أوروبا والعرب. فهناك مصالح اقتصادية مشتركة ضخمة بين الطرفين في مجالات التجارة والطاقة والسياحة، كما أن هناك أيضاً شواغل وتهديدات مشتركة، مثل الهجرة والإرهاب؛ كلها عوامل توفر أرضية مناسبة للتعاون والتكامل فيما بينهما، وبناء على ذلك فما من شك في أن استمرار الأزمات وتفاقمها في جنوب المتوسط يؤثر سلباً على الاستقرار في أوروبا. ويتضح هذا بشكل خاص في حالتي سوريا وليبيا، فكل بلد يؤثر بطريقته الخاصة على أوروبا.
وقد أعربت عن رأيي في مقال سابق، من أن أوروبا لن تتمكن من اتخاذ المبادرة لحل أي من الأزمات في منطقة الشرق الأوسط، وإنما يمكن أن تتجاوب مع أي مبادرة نابعة من دول المنطقة. وعلى ما يبدو الآن، فإنني كنت محقاً جزئياً فقط، فما زال هناك أمل في أن تتمكن أوروبا من الإسهام في إيجاد حل للنزاع الدائر في ليبيا، حيث يمكن البناء على نتائج مؤتمر برلين بشأن ليبيا، في يناير (كانون الثاني) الماضي، الذي عقد نتيجة مخاوف برلين من تداعيات قضية الهجرة، وبدفع من المبعوث الأممي غسان سلامة.
ورغم أن مؤتمر برلين شكل نقطة مهمة على طريق التسوية السياسية في ليبيا، فإنه لم يستطع دفع الأوروبيين إلى تجاوز الانقسامات العميقة فيما بينهم. والدليل على ذلك أنه لم يتم تفعيل آليات العمل الأوروبي المشترك، المتمثلة في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (ناتو)، من أجل تدعيم جهود التسوية السياسية. فحلف شمال الأطلسي بدلاً من أن يكون إطاراً لمواجهة التحديات المشتركة، أظهر مدى عمق الانقسامات بين أعضائه، حيث لم يستطع التعامل بشكل حاسم مع سابقة خطيرة كادت تؤدي إلى مواجهة مباشرة بين فرنسا وتركيا العضوين في الحلف. وحتى الاتحاد الأوروبي اكتفى - على ما يبدو - بإصدار البيانات، من دون الإقدام على أي مساهمة ملموسة.
هذا يحدث رغم أن ليبيا تشكل أهمية خاصة بالنسبة لأوروبا، فهي ليست فقط قاعدة انطلاق للهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، وإنما مصدر مهم للطاقة، وفي الوقت نفسه ملاذ للإرهابيين. كذلك، وبصرف النظر عن المصالح الاقتصادية والأمنية لأوروبا في ليبيا، فإن أوروبا ملزمة أخلاقياً تجاه شعب هذا البلد؛ ألم تكن أوروبا هي التي تدخلت عسكرياً لحماية الشعب الليبي من حكم العقيد معمر للقذافي؟ ولكن، ما الذي فعلته منذ ذلك الحين لتحقيق الاستقرار في ليبيا؟
فالتدخل العسكري الأوروبي في ليبيا، مثل معظم التدخلات العسكرية الأجنبية، خاصة في العراق، لم يتضمن رؤية ولا التزاماً ببرنامج واضح عملي لتحقيق الاستقرار، إنما ترك الشعب الليبي يواجه مصيراً مجهولاً محفوفاً بمخاطر جمة حالت دون تحقيق تطلعاته إلى مستقبل أفضل.
ففي الوقت الذي يتنافس فيه الأوروبيون فيما بينهم على تنظيم مؤتمرات، والعمل من أجل ضمان استمرار إمدادات الطاقة، استفادت كل من روسيا وتركيا من أخطاء الأوروبيين، فأصبحتا لاعبين رئيسيين في ليبيا.
وأمام أوروبا الآن أحد اختيارين؛ إما أن تتبع سياسة مماثلة للسياسة التي تتبعها في سوريا، وهي أن تكتفي بدور هامشي في جهود التسوية السياسية، أو أن تقوم بدور مباشر بناء لتحقيق تسوية سياسية شاملة في ليبيا.
ولا شك أن أفضل حل في ليبيا يجب أن يتأسس على التوازن بين مصالح جميع الأطراف، سواء من داخل المنطقة أو خارجها، مثل الاتحاد الأوروبي وروسيا والولايات المتحدة. وهذا يعني باختصار التوصل إلى «صفقة كبرى»، محورها موضوع الطاقة. غير أن النظر في مثل هذا الترتيب محكوم بالتأجيل إلى ما بعد الانتخابات الأميركية المقبلة، لكن من الممكن أن يستعاض عنه بتفاهمات بين أوروبا وروسيا والبلدان الإقليمية، على أمل أن تحظى بمباركة من واشنطن في نهاية المطاف.
ولكن قبل المضي قدماً في هذا الأمر، سيكون من الضروري التعامل مع تدخل تركيا الذي أصبح يشكل تحدياً كبيراً للمصالح الأوروبية. فرغم أنه لدى روسيا خبرة عملية في التعامل المنفرد مع ذلك، كما هو واضح في سوريا، فإن الأمر مختلف في حالة ليبيا، حيث إن دور الاتحاد الأوروبي سيكون حاسماً في وضع حد لطموحات أنقرة السياسية والاقتصادية المبالغ فيها بليبيا. فعلى الاتحاد الأوروبي أن يتخذ موقفاً حازماً في هذا الشأن، فالمصالح الأوروبية تتعارض في معظمها مع «أحلام» أنقرة، وخاصة فيما يخص الطاقة. كذلك فرغم أن بعضهم ينظر إلى سعي تركيا إلى إقامة قواعد عسكرية وبحرية في ليبيا على أنه مكسب لحلف الناتو من شأنه التصدي إلى الوجود الروسي، فإن حقيقة الأمر أن من يتابع السياسة التركية في ظل حكومة الرئيس رجب طيب إردوغان يدرك أنها خاضعة لحسابات ذاتية تركية ليس لها علاقة بسياسة الحلف.
وربما الخطوة الأولى التي يمكن أن تفتح المجال أمام تنشيط دور الاتحاد الأوروبي، تتمثل في أن تستفيد ألمانيا من رئاستها لمجلس الأمن الدولي خلال الشهر الحالي، وبداية رئاستها للاتحاد الأوروبي للأشهر الستة المقبلة، لتعظيم إعطاء دفعة للجهود السياسية. ومما لا شك فيه أن لدى ألمانيا ميزة إضافية، كونها تتمتع بعلاقات خاصة مع كل من روسيا وتركيا. وعلاوة على ذلك، فإن اجتماعين محددين خلال شهر يوليو (تموز) الحالي من شأنهما، إن تمت الاستفادة منهما بشكل صحيح، أن يدعما قدماً الجهود السياسية: الأول هو الاجتماع الوزاري الخاص للاتحاد الأوروبي بشأن ليبيا، المقرر عقده يوم 13 من الشهر الحالي، والثاني هو الاجتماع المقرر للجنة المتابعة الدولية المعنية بليبيا، الذي سيرأسه خلال هذه الجولة الاتحاد الأوروبي. باختصار، على ألمانيا أن تستفيد من الالتقاء الفريد لتلك العوامل من أجل إعطاء دفعة قوية للتسوية السياسية.
ويمكن لألمانيا أن توظف هذين الاجتماعين لإعادة توجيه الأمور إلى إطار مؤتمر برلين وعملية الأمم المتحدة، مع الاستفادة من المبادرة المصرية الأخيرة التي تهدف إلى التعامل مع معضلة هياكل الحكم في ليبيا، ولا سيما المجلس الرئاسي، التي كانت السبب الرئيسي الذي حال دون إحراز أي تقدم نحو تسوية سياسية. وبذلك، تكون ألمانيا، وبالتالي أوروبا، قد استجابت لمبادرة عربية، الأمر الذي من شأنه تعزيز مصداقية جهودها.
وفيما يتعلق بوقف إطلاق النار، رغم أن العمليات العسكرية قد هدأت بعض الشيء في هذه المرحلة، فإن هناك حاجة ملحة إلى تثبيت وقف إطلاق النار على خطوط التماس الحالية، بالإضافة إلى اتخاذ إجراءات أكثر صرامة لمنع تدفق السلاح والمرتزقة. وهنا، من الأهمية التنويه إلى أن مصر - بدعم عربي، وعلى ما يبدو مباركة روسية - حددت من خلال مبادرتها خطاً أحمر لتقدم قوات حكومة الوفاق. ومن ثم، فعلى أوروبا أن تتخذ ليس فقط موقفاً موحداً بتثبيت خطوط القتال على ما هي علية الآن، وإنما أيضاً أن تتخذ إجراءات أكثر صرامة لوقف تدفق الأسلحة والمرتزقة إلى ليبيا. وبمجرد أن يصل الطرفان المتنازعان في ليبيا إلى وقف إطلاق النار على خطوط التماس الحالية بشكل رسمي يحظى بمباركة الأمم المتحدة، يمكن للعملية السياسية أن تستأنف.
وختاماً، فإن الأزمة الليبية الحالية توفر فرصة لأوروبا لأن تثبت أنها قادرة على تجاوز الخلافات الضيقة بين دولها، وأنها تستطيع أن تتعامل مع التحديات المستجدة من أجل تحقيق المصالح العليا المشتركة.
8:2 دقيقه
TT
أوروبا أمام الاختبار الليبي
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة